dimanche 9 septembre 2012

الــــعــــــدالــــــة الانــــتــــــقــــالـــــيـــــة

ملأت العدالة الانتقالية دنيا السياسيين و أطراف المجتمع المدني و الحقوقيين و المواطنين في مرحلة ما بعد الثورة في بلادنا، و لا غرابة في ذلك إذ برز هذا الاهتمام المتزايد في جميع البلدان التي عرفت الثورات و النزاعات و الصراعات و التحولات الديمقراطية بعد أن عاشت فترات في تاريخها اتسمت بالاستبداد و الظلم و التجاوزات المختلفة و خاصة انتهاكات جسيمة لحقوق المواطنين الأساسية.

 و كان من نتيجة ذلك التفكير في هذه المؤسسة التي وقع العمل بها في حوالي ثلاثين بلدا موزعة على مختلف القارات، مثل جنوب إفريقيا و التشاد و نيجيريا و المغرب  و أوغندا و سيراليون و السلفدور      و البيرو و بوليفيا والفيليبين و كوريا الجنوبية و غيرها ...... و لعل من عوامل انتشار هذه المنظومة تطور آليات الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان و بعث منظمات غير حكومية للدفاع عنها خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة و سقوط الأنظمة الدكتاتورية في عدة بلدان.
 و يرى العديد ان  مفهوم العدالة الانتقالية يكتنفه بعض  الغموض خاصة أنها مؤسسة حديثة نسبيا و قد كتب الأستاذ  FABRICE  HOURQUEBIE  مقالا بعنوان "هل لمفهوم العدالة الانتقالية معنى ؟ ذكر فيه متسائلا أيضا :"هل أنها أداة تلهية سياسية مبتكرة ( GADGET POLITIQUE ) تستعملها بالخصوص المنظمات الدولية لممارسة نشاطها لفائدة إقرار الديمقراطية ؟
و قبل النظر في آليات العدالة الانتقالية و ما تثيره من إشكاليات تقنية قانونية يتعين تعريفها و بيان أساسها و أهدافها.

تعريف العدالة الانتقالية :
من أهم التعاريف المتداولة اليوم ما ورد في التقرير الذي قدمه الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن في 23 أوت 2004 حول إعادة بناء دولة القانون و إقامة العدل خلال المرحلة الانتقالية في المجتمعات التي تعيش نزاعات أو خارجة منها و جاء فيه أن العدالة الانتقالية هي "مجموع مختلف العمليات و الآليات التي يضعها المجتمع لمحاولة مجابهة التجاوزات الجسيمة المرتكبة في الماضي لتحديد المسؤوليات و النظر فيها ثم المصالحة "
أما الأستاذ  XAVIER PHILIPPE  فقد عرﱠف العدالة الانتقالية بأنها "مجموع الآليات و الأجوبة الكفيلة بمعالجة التجاوزات المرتكبة في نظام سابق المتسمة بدرجة كبيرة من العنف الاجتماعي و الانتهاكات الممنهجة والجسيمة للحقوق الأساسية للذات البشرية " موضحا أنها "مجموعة الإجراءات القضائية و غير القضائية التي ترمي إلى تحقيق الأهداف الكلاسيكية للعدالة حول ثلاثية هي: الحقيقة و المسؤولية و الجزاء
و عرﱠفت الأستاذة MARGUERITE BUKURU  "العدالة الانتقالية بأنها مزج آليات قضائية و غير قضائية  لمجابهة الماضي و الكشف عن الحقيقة و وضع حد للإفلات من العقاب في سبيل تحقيق المصالحة الوطنية في البلدان الخارجة من فترة الصراع و الأنظمة الدكتاتورية التي انتهكت حقوق الإنسان انتهاكا فضيعا "
و يؤخذ من هذه التعريفات و غيرها أن العدالة الانتقالية هي آلية استثنائية  و وقتية للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أثناء فترة نزاعات او في نظام استبدادي  لمعرفة الحقيقة و تحديد المسؤوليات ثم المصالحة الوطنية .
و للعدالة الانتقالية أسس أخلاقية و اجتماعية و سياسية فهي تنطوي على قيمة التسامح و الصفح و العفو و معلوم إن الدين الإسلامي الحنيف كرﱠس هذه المبادئ السامية، إذ قال تعالى جل ذكره :"فمن عفا و أصلح فأجره على الله " و قال أيضا : "عفا الله عما سلف " كما ورد في سورة المائدة "فاعف عنهم و اصفح إن الله يحب المحسنين ". و يرى بعضهم انه لا مستقبل بدون صفح .
و على الصعيد السياسي، لا يمكن إعادة الاستقرار و الأمن و اللحمة بين أفراد الشعب بدون إنصاف المتضررين من التجاوزات و المظالم التي تعرضوا لها .
و العدالة الانتقالية بهذا المعنى تختلف عن القضاء العادي من حيث تركيبة الجهاز الذي يتولى ممارسة هذه العدالة و كذلك من حيث الأهداف و طبيعة العمل و النتائج.
فإذا كانت وظيفة القضاء الجزائي العادي هي تسليط العقوبات على مرتكبي الجرائم بأعتبار أن وظيفته  هي بالدرجة الأولى الزجر فان مهمة العدالة الانتقالية ليست الزجر إلى درجة أن أحد الباحثين  و هو السيد  E.JAUDEL  سماها "قضاء بدون عقاب" و مردﱠذلك أن أساس العدالة الانتقالية يختلف  كثيرا عن أساس إقامة العدل العادي، و فعلا إن الغاية من إقرار العدالة الانتقالية هي تحقيق الوحدة الوطنية و إعادة بناء دولة القانون و إرساء نظام ديمقراطي حقيقي و العمل على تجنب التجاوزات و انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل. و لتحقيق هذه الغايات فان مهمة العدالة الانتقالية تتمثل أساسا في الكشف عن الحقيقة لمعرفة المسؤولين عن الانتهاكات و التجاوزات، كتحديد الضحايا و حاجياتهم و التعويض لهم و أخيرا تقديم توصيات حول إصلاح  المؤسسات السياسية و جهاز الأمن و القضاء و الإدارة لتجنب الفساد بمختلف أنواعه في كل مؤسسات الدولة و تنقيح القوانين و تنتهي بالمصالحة الوطنية لتشييد مستقبل البلاد على أسس جديدة قوامها الوئام بين مختلف شرائح المجتمع و هي شرط أساسي لتحقيق الوحدة الوطنية التي لا تتأتى إذا بقيت حيازم المواطنين مملوءة غمرا .
و يرى الباحثان MARK    FREEMAN    و DOROTHEE MAROTINE  أن العدالة الانتقالية ترتكز على الطريقة التي ستعالج بها المجتمعات التي في حالة انتقال من الحرب إلى السلم أو من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي تركة التجاوزات الجسيمة و إن أهداف العدالة الانتقالية هي مجابهة هذا الإرث، و هي تشمل العدالة الجزائية و التعويضية و الاجتماعية و الاقتصادية،و إن هذه العدالة تتمحور حول أربع آليات أساسية هي: أولا  تتبع مرتكبي الجرائم جزائيا و هذه المرحلة أساسية و الغاية منها تفادي ارتكاب انتهاكات جديدة و تدعيم قيم الديمقراطية و إعادة الثقة العامة في الدولة  ثانيا تقصي الحقائق ومنح التعويضات للمتضررين ثالثا إصلاح المؤسسات و رابعا المصالحة  .
و على صعيد أخر، فان العدالة الانتقالية كانت و لا تزال موضوع جدل كبير بين الحقوقيين الذين تباينت مقاربتهم لها و تساءل الأستاذ XAVIER PHILIPPE  عماﱠ إذا كانت العدالة الانتقالية تتلاءم مع المبادئ الدستورية المكرﱠسة في دولة القانون و مدى احترامها للحقوق و الحريات الأساسية لمرتكبي التجاوزات و الضحايا على حد سواء.
 كما أبدى بعضهم خشيتهم من أن تصبح هذه المنظومة أداة للإفلات من العقاب فتنتقل إلى عفو متستر، كما عبر آخرون عن تخوفهم من أن تؤول إلى آلة للانتقام. و الرأي عندنا أن العدالة الانتقالية هي تلك التي تحقق المعادلة الصعبة أحيانا بين عدم الإفلات من العقاب و عدم التشفي، و لا يتأتى ذلك إلا باحترام حقوق كل الأطراف تكريسا لحق الدفاع و ذلك في نطاق المساءلة العادلة و عدم تسييسها لان السياسة هي آفة العدالة و معلوم أن العدالة الانتقالية انتشرت منذ أوائل الثمانيات كما ان منظمة الأمم المتحدة شجعت عليها و كذلك دول الاتحاد الأوروبي و تكونت عدة منظمات و جمعيات مهتمة بهذا الموضوع،منها المركز الدولي للعدالة الانتقالية الذي أحدث عام 2001 في نيويورك و كذلك مركز العدالة و المصالحة الذي يعمل على مساعدة الدول الإفريقية في هذا الميدان و تقتضي هذه العدالة من أطرافها سلوكا خاصا فعلى المذنبين الاعتراف بذنبهم و الاعتذار لضحاياهم عما ارتكبوه و على هؤلاء من ناحيتهم أن يتحلوا بروح الصفح و الابتعاد عن عقلية الأخذ بالثأر و التشفي و على المشرفين على العدالة الانتقالية أن يمارسوا عملهم بنية العمل على إصلاح ذات البين و تهدئة الخواطر مع إنصاف المتضررين، فالعدالة الانتقالية هي في آخر الأمر ليست محاكمة جزائية تقليدية بقدر ما هي  مساءلة أدبية دون إهمال الحقوق المعنوية و المادية للضحايا. إذ أن من أولوياتها التركيز على حاجياتهم،و من أجل ذلك لا بد من آليات خاصة لتحقيق هذه الأهداف  و العمل على تفادي ما تثيره من إشكاليات قانونية و لنبادر إلى القول بأنه لا وجود لنمط واحد للعدالة الانتقالية. فبالرجوع إلى تجارب بعض البلدان التي عرفت هذه المؤسسة، نلاحظ أن لكل تجربة خصائصها تختلف باختلاف الأوضاع التاريخية و الاجتماعية و السياسية لكل دولة و من اجل ذلك فان الاستنساخ التشريعي في هذا الميدان غير ممكن، إذ لا وجود لنموذج موحد لهذه المنظومة ،  و مع ذلك فانه من الضروري الاستئناس بتجارب الآخرين و خاصة الناجحة منها و القريبة منا بدون تقليد مطلق. فلنعمل على إقامة عدالة انتقالية تونسية أصيلة تتماشى مع ظروف البلاد و خصوصياتها و حاجياتها و إمكانياتها.
 و حسبنا في هذا المقال الاستشراف و تقديم بعض الملاحظات و الاقتراحات و إثارة بعض الإشكاليات القانونية التي تطرحها العدالة الانتقالية في انتظار سن القانون الأساسي المتعلق بهذه المسالة الهامة التي يتطلع إليها و يستعجلها الضحايا و هم على حق في ذلك بالإضافة إلى أطراف المجتمع المدني و المنظمات غير الحكومية و رجال السياسة . و نرجو أن يرى التشريع الخاص بها النور في القريب العاجل. و معلوم أن الفصل 24 من القانون عدد 6 المؤرخ في 16/12/2011 نص على انه "يسن المجلس الوطني التأسيسي قانونا أساسيا ينظم العدالة الانتقالية و يضبط أسسها و مجال اختصاصها "

آليات العدالة الانتقالية :  
إن الآلية الأساسية للعدالة  الانتقالية تتمثل في الجهاز الذي سيشرف عليها و قد اختلفت الأنظمة في تسميته و من بين التسميات المتداولة "لجان الحقيقة و العدالة"  في هايتي و لجان "الحقيقة و المصالحة " في الشيلي و جنوب إفريقيا و سيراليون و جمهورية يوغسلافيا سابقا و " لجنة الاستقبال و الحقيقة و المصالحة" في تيمور الشرقية و "هيأة الإنصاف و المصالحة " في المغرب التي أحدثت بموجب قرار ملكي بتاريخ 06 نوفمبر 2003 .
و نقترح أن يطلق على الجهاز الذي سيتولى الإشراف على العدالة الانتقالية في تونس "الهيئة الوطنية للحقيقة و الإنصاف و المصالحة " لان هذه التسمية تستجيب لأهداف العدالة الانتقالية و هي الكشف عن الحقيقة و إنصاف المتضررين ثم المصالحة .
وهناك مسالة أخرى هامة تتعلق  بتركيبة هذه الهيئة و من سيتولى تعيين أعضائها و الشروط التي يجب توفيرها فيهم، اختلفت أيضا الأنظمة في خصوص هذا العنصر ففي المغرب مثلا تم تعيين نصف أعضاء لجنة الإنصاف و المصالحة من بين أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، في حين أن النصف الأخر من خارجه، علما بان عدد أعضاء الهيئة يبلغ ستة عشر عضوا و يصعب إتباع نفس هذه الطريقة في تونس نظرا إلى أن ما يقابل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المغربي في تونس هو الهيئة العليا لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية و هي الآن شبه مجمدة بعد أن استقال بعض أعضائها بمن في ذلك رئيسها و مهما يكن من أمر فانه لا بد من توفر شروط معينة في أعضاء الهيئة المشرفة على العدالة الانتقالية و من أهمها أن يكونوا مستقلين غير منتمين إلى أحزاب أو تيارات سياسية مهما كان نوعها و نزهاء من ذوي الكفاءات العالية  و المعروفين بنضالهم من اجل حقوق الإنسان كما يستحسن التنوع في تركيبتها لتشمل رجال قانون و خبراء و ممثلين لبعض المنظمات غير الحكومية الجدية و العريقة في النضال من أجل  حقوق الإنسان و كذلك شخصيات وطنية، والمفروض أيضا أن يتم اختيار الأعضاء في نطاق الشفافية و حسب مقاييس موضوعية لتجنب أي توظيف سياسي تفاديا لاعتماد الولاءات الحزبية. و تبقى مسالة تحديد الجهة المؤهلة لتعيين هؤلاء الأعضاء مطروحة و  نعتقد أنه يمكن إسناد هذه المهمة للمجلس الوطني التأسيسي باعتباره يجسم الشرعية شريطة تفادي المحاصصة و الإقصاء  المبني على خلفيات سياسية .
و بعد تعيين الأعضاء تبقى مسالة رئاسة الهيئة و الرأي عندنا انه يحسن أن يكون الرئيس منتخبا من قبل الأعضاء المعينين لتجنب كل شبهة وضمانا لانسجام أعضاء الهيئة و نجاعة عملها .

الطبيعة القانونية للهيأة المشرفة على العدالة الانتقالية :
إن من بين الإشكاليات القانونية المطروحة تحديد الطبيعة القانونية للهيئة المشرفة على العدالة الانتقالية يرى العديد من شرﱠاح القانون إن هذه الطبيعة غير محددة و مهما يكن الأمر ليست لها صبغة قضائية فهي اقرب إلى السلطة الإدارية فهيكلتها مستقلة عن السلطة القضائية و عن سلطة الدولة و الحكومة و هذا ما تم إقراره في جنوب إفريقيا عند إحداث "لجنة الحقيقة و المصالحة " و التي وقع التنصيص عليها في الدستور المؤقت للبلاد الصادر في 27 أفريل 1994 و التي كان ترأسها القس DESMOND TUTU   المحرز على جائزة نوبل للسلام و قد كتب على حائط منزله "كيف نحول الأخطاء البشرية عدلا بشريا " و لعل نفوذ هذه اللجنة مستمد من كونها محدثة بموجب الدستور.و لا تفوتنا الإشارة إلى أن الفصل 15 من هذا الدستور ينصﱡ على "الحاجة إلى التفاهم  و لا إلى الانتقام و إلى التعويض لا إلى الأخذ بالثار و إلى الوحدة و المصالحة الوطنية و لا ضحايا جدد" و يرى بعضهم إن إحداثها يدل على شيء من الاحتراز إزاء الجهاز القضائي و سلطة الدولة، علما بان اللجان التي أحدثت في نطاق العدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية كانت خاضعة لنفوذ الدولة و هذا ما وقع مثلا في الأرجنتين 
 ونرجو أن يتضمن القانون الأساسي المتعلق بالعدالة الانتقالية أحكاما تنص صراحة على استقلالية الجهاز الذي سيقوم بهذه المهمة
وحدﱠد الأستاذانMARK  FREEMAN  و DOROTHEE MAROTINE.  المواصفات الواجب توفرها في لجان الحقيقة و من أهمها أن تكون معتمدة بصفة رسمية من قبل الدولة، و تتمتع ببعض الاستقلالية إزاء الدولة و يكون ذلك بتحقيق الاستقلال المالي و السياسي، و أن تكون مدة عملها تتراوح بين عام و نصف و عامين و نصف و أن تحصر عملها في إحداث الماضي و إن تجري أبحاثا حول الاعتداءات الخطيرة على حقوق الإنسان و عند الاقتضاء انتهاكات القانون الدولي و الإنساني و إعطاء الأولوية لحاجيات الضحايا.
و المفروض أيضا أن يحدد القانون المدة التي سيستغرقها عمل الهيئة و إجراءات تعهدها بالملفات و ضبط أجال تقديمها حتى لا تطول هذه المرحلة
و معلوم أن لجنة الحقيقة و المصالحة في جنوب إفريقيا اشتغلت مدة عامين و نصف و تلقت عشرين ألف شكاية و تولت البحث في وضعية تسعة ألاف شخص و حررت تقريرا اشتمل على ثلاثة ألاف صفحة ؟

صلاحيات الجهاز المشرف على العدالة الانتقالية :
لعل من أهم المسائل القانونية و السياسية المطروحة تحديد المهام المنوطة بعهدة الهيئات أو اللجان المكلفة بتحقيق العدالة الانتقالية و اختلفت الاتجاهات و الآراء بشأن هذا الموضوع إذ إن في بعض البلدان أعطيت لها صلاحيات محدودة ففي الأرجنتين كلفت "لجنة الكشف عن الحقيقة " المحدثة عام 1983 بالتحقيق في المفقودين خاصة و انه قتل اثنا عشر ألف شخص خلال سبع سنوات و في الشيلي كانت صلاحيات اللجنة منحصرة في التعويضات المدنية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، في حين أن لجنة الحقيقة و المصالحة في جنوب افريقيا تولت النظر في أسباب و طبيعة و مدى انتهاكات حقوق  الإنسان و تمكين المتضررين من التحدث مما عانوه من تعذيب،و كذلك التوصية لهم بالتعويضات و إقرار إجراءات منح العفو و إعداد تقرير في كل أعمالها .
و نظرت هيئة الإنصاف و المصالحة في المغرب في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و تولت "إجراء تقييم شامل لمسلسل ملف الاعتقال التعسفي و تسوية ملف الاختفاء القسري " و القيام بالتحريات اللازمة و الوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة و غيرها من الانتهاكات و الوقائع موضوع التحريات و البت في الطلبات المعروضة عليها و المتعلقة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت ضحايا الانتهاكات و كذلك النظر في كيفية تعزيز مسار المصالحة الوطنية " حسب ما جاء في التقرير الختامي للهيئة.
.و لا شك أن النص التشريعي الذي سيصدر حول العدالة الانتقالية في تونس سيضبط مهام المؤسسة التي ستتولى تفعيلها و لا بد من أن يكون النص المرتقب شاملا و دقيقا وواضحا يأتي على كل المسائل المتعلقة بالعدالة الانتقالية لتفادي أي أشكال عند تطبيقه و من بينها تحديد الحيز الزمني الذي ارتكبت أثناءه الجرائم التي سيقع النظر فيها  و هذا العنصر هام و مرتبط بخيارات سياسية.  كما يتعين ضبط طبيعة الجرائم التي ستكون موضوع العدالة الانتقالية إذ خلافا لما ارتآه البعض فإنها لا تشمل جميع أنواع الجرائم المرتكبة في الماضي و المفروض أن يكون موضوع العدالة الانتقالية الانتهاكات الجسيمة للحقوق الأساسية للإنسان، مثل التعذيب و القتل لأسباب سياسية و الإيقافات التعسفية و الاختفاء القسري و التي تمثل جانبا من جرائم الاعتداء على الأشخاص، إذ أن نطاق العدالة الانتقالية ليس مطلقا، فهي لا تشمل جرائم الحق العام المرتكبة بين أفراد الناس و التي لا تكتسي أية صبغة سياسية كما انه لا يمكن حشر جميع المسائل و المشاكل المطروحة الآن على الساحة الوطنية في العدالة الانتقالية. 

الإشكاليات القانونية و العملية  التي تطرحها العدالة الانتقالية :
هناك جملة من الإشكاليات التي يمكن أن تطرح في نطاق العدالة الانتقالية و التي تكتسي صبغة عملية و قانونية ،من بينها أن الهيأة الوطنية  لمكافحة الفساد تعهدت بمئات الملفات الداخلة في مهامها و التي يمكن أيضا أن تكون من مشمولات العدالة الانتقالية و لم يقع البت في تلك الملفات، فهل ستتخلى عنها الهيأة لتصبح من مشمولات العدالة الانتقالية ؟  كما أن القضاء العدلي و كذلك العسكري تعهد بعدة قضايا سواء تعلق الأمر بجرائم الاعتداء على الأشخاص أو جرائم الاعتداء على الأموال العمومية طبق الفصل 96 و غيره من المجلة الجزائية، و صدرت بعض الأحكام في شأنها، و مازالت قضايا أخرى عديدة على بساط النشر، فهل تدخل تلك القضايا أيضا في نطاق العدالة الانتقالية ؟
المفروض أن يواصل القضاء النظر في القضايا التي تعهد بها إلى أن تصدر في شأنها أحكام باتة و لا يمكن أن يتخلى عنها خاصة و أن الجهاز الذي سيشرف على العدالة الانتقالية ليست له صبغة قضائية كما أسلفنا .
و من ناحية أخرى هل يمكن للعدالة الانتقالية أن تنظر في قضايا صدرت في شانها  أحكام باتة قبل الثورة، إذا نازعت بعض الأطراف المحكوم ضدها فيها أو إذا تضرر بعضهم منها ؟
المفروض انه لا يمكن إعادة النظر في الأحكام الباتة إلا في نطاق  إعادة النظر إذا توفرت الحالات المحصورة و الدقيقة و المنصوص عليها في الفصل 277 و ما بعده من مجلة الإجراءات الجزائية .
و على صعيد آخر، رأينا انه لا بد من مرحلة أولية في العدالة الانتقالية تتمثل في تتبع مرتكبي الجرائم جزائيا قبل المصالحة،والمفروض أن القضاء الجزائي العادي هو الذي سيتعهد بذلك و قد باشر فعلا عمله بعد الثورة على أن هذا التتبع قد تعترضه بعض العراقيل خاصة إذا تعلق الأمر بجرائم ارتكبت في الماضي البعيد من حيث وسائل الإثبات التي قد تكون اندثرت، كما يصعب أحيانا إيجاد الشهود فضلا على إثارة مسالة سقوط الدعوى العمومية بمرور الزمن بالنسبة لبعض الجرائم .و الملاحظ أن في بعض الدول أعطي اختصاص خاص للقضاء للبت في تلك القضايا كما تم بعث محاكم استثنائية أو خاصة مثل ما وقع في البوسنة و العراق و في دول أخرى تم إحداث هيئات قضائية مختلطة من حيث القانون المنطبق و الذي يجمع بين القانون الوطني و القانون الدولي أو من حيث تركيبة تلك الهيئات أو الإجراءات المتبعة، مثل المحكمة الخاصة التي وقع تكوينها في سيراليون أو تيمور الشرقية و لا شك ان للقضاء التونسي المؤهلات اللازمة التي تمكنه من النظر في هذا الصنف من القضايا .
و مهما يكن من أمر فان هناك تكاملا بين العدالة الانتقالية و بين القضاء العادي .

طريقة عمل العدالة الانتقالية :
 لا بد من توفير كل الوسائل لتمكين الهيئة أو اللجنة التي ستباشر عملها من الوصول إلى المعلومات و الاطلاع على الأرشيف عند الاقتضاء و على كل الوثائق الإدارية و غيرها لكشف الحقيقة. والمفروض أيضا تحديد طرق سير العمل، و يكون ذلك في إطار إعداد نظام أساسي داخلي، مع الملاحظة أن في العديد من البلدان التي عرفت هذه التجربة كانت الجلسات المنعقدة في نطاق العدالة الانتقالية علانية و مفتوحة للعموم  و يمكن استعمال الوسائل السمعية و البصرية و مختلف وسائط الاتصال الحديثة حتى يتمكن الجمهور من متابعة أعمال الجلسات ضمانا للشفافية و المصداقية. و من البديهي أن يحضر تلك الجلسات بالخصوص المذنبون و المتضررون ليعترف الأولون بذنبهم و يقدموا اعتذاراتهم لضحاياهم و يطلبوا منهم العفو و لا شك أن مجرد حضور المتظلمين و حديثهم عما  قاسوه من تعذيب أو سوء معاملة و التعبير عما يخالجهم من مشاعر الضيم  بعد صمت طويل و مجابهة مرتكبي ذلك، واعتذار هؤلاء هو في حد ذاته جزء من التعويض المعنوي رغم أن الصفح الذي يصدر عن الضحايا لا يعني بالضرورة نسيان الماضي، لأنه كما قال أحدهم "يعيش بيننا " كما أن العفو لا يعني أيضا الإفلات من العقاب و هو يتجافى مع العدالة الانتقالية.

التعويض لضحايا الانتهاكات :
لا شك أن التعويض للمتضررين  هو من أهم صلاحيات العدالة الانتقالية إذ بدونه لا تكتمل، فلا مصالحة أو عفو بدون إنصاف الضحايا بجبر الأضرار التي لحقتهم،  و يتعين وضع نظام قانوني واضح للتعويض و ذلك بتحديد الأشخاص المنتفعين به و كيفية إثبات الأضرار و ضبط عناصر تقدير الغرامات و من سيتولى دفعها و في هذا السياق يرى جل شرﱠاح القانون أن الدولة هي المطالبة بالتعويض إذ لا يمكن تحميل المسؤولية على الحكومات السابقة التي ارتكبت في ظلها  الجرائم و ذلك عملا بمبدأ استمرارية الدولة. و في هذا السياق نشير إلى اللائحة رقم 147/60 التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 2005 و المتعلقة بالمبادئ الأساسية الخاصة بحق المتضررين من جراء الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان في التعويض السريع و الملائم و الفعلي   و يكون ذلك على عاتق الدولة إذا توفرت شروط مسؤوليتها علما بان الدولة تكون ملزمة بجبر الأضرار في عدة صور نذكر منها  الأضرار التي يتسبب فيها موظفوها و نصت بعض القوانين على ذلك و المفروض أن يتم ضبط شروط قيام المسؤولية المذكورة في النص الذي سينظم العدالة الانتقالية، و يرى بعضهم أن هذا التعويض يمليه التضامن الاجتماعي و يدعم العلاقة بين الدولة و مواطنيها و ثقتهم فيها و يحقق المصالحة الوطنية و قد يثير التعويض بعض الإشكاليات القانونية منها كيفية دفع التعويضات  و هل يمكن للمتضررين ورفض المبالغ المقترحة عليهم، و هل يمكنهم المنازعة في الغرامات المعروضة عليهم و هل لهم حق الطعن في قرارات التعويض ؟
و يثير التعويض أيضا مسألة تحديد نوعية الأضرار التي يجب جبرها مثل الضرر البدني و المعنوي و الاقتصادي و فوات الفرص و خاصة الحرمان من الحرية بسبب الاعتقالات التعسفية و قضاء سنوات عديدة في السجون بالنسبة إلى العديد من الضحايا. كما أن من بين المشاكل المطروحة تحديد شكل التعويض و مقداره بالنسبة للضرر المادي كالانتفاع بخدمات اجتماعية مثل المعالجة و السكن و تسهيل الدخول إلى الوظيفة العمومية و إعادة من تم عزلهم إلى وظائفهم و لا شك إن من ابرز أشكال التعويض دفع مبالغ مالية و في هذا النطاق لا بد من الأخذ في الاعتبار لعنصرين هامين أولهما إمكانيات ميزانية الدولة التي لا يمكن إرهاقها بالتعويضات المشطة خاصة و أن البلاد في حاجة أكيدة  إلى موارد مالية كبيرة في الوقت الحاضر للتنمية الجهوية و انجاز مشاريع اقتصادية و مواطن شغل و الاستجابة لطلبات الزيادة في الاجور و ثانيهما حق المتضررين في التعويض و هو حق مشروع إلا انه لا يغيب عن الأذهان أيضا أن التعويض في نطاق العدالة الانتقالية ليس فرصة للإثراء أو غنيمة لاقتسامها فلا يمكن التعسف في استعمال الحق مع التذكير بان بعض المساجين السياسيين الذين حوكموا في العهد السابق و قضوا سنوات في السجن تنازلوا عن المطالبة بالتعويضات فجازاهم الله و الوطن خيرا و كان هؤلاء يناضلون من اجل مبادئ و قيم سامية و هي لا تقدر بثمن و يتجه التذكير بأن المقاومين الذين ناضلوا من اجل تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي لم يتحصلوا على تعويضات مالية سوى بعض المنح المتواضعة و الخدمات الاجتماعية و الحصول على بعض الرخص الإدارية لتعاطي أنشطة معينة و توظيف  البعض منهم كما أن زعماء الحركة الوطنية لم يتحصلو على تعويضات لجبر الأضرار التي لحقتهم من اجل ما عانوه من اعتقالات و نفي مدة سنوات عديدة بالنسبة للبعض و بقطع النظر عن هذا التذكير فان صاحب أي حق له أن يطالب به و له أيضا أن يتنازل عنه و لكل شخص قناعاته الخاصة  و للناس فيما يختارونه مذاهب .

العفو و العدالة الانتقالية :
طرح موضوع العفو في نطاق العدالة الانتقالية تباينت الآراء في شأن هذا الموضوع إذ هناك اتجاه يرى أصحابه انه لا يمكن العفو في خصوص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان و الجرائم الاقتصادية الخطيرة، و يبرر أصحاب هذا الاتجاه رأيهم بان في العفو مساسا بحقوق المتضررين و يتجافى مع مبادئ دولة القانون و فيه تسييس للقضاء الجزائي، و يمكن بالخصوص من الإفلات من العقاب كما يمكن أن يولد رد فعل عنيف مثل الأخذ بالثار
و تبنت بعض الدول هذا الاتجاه من ذلك انه لم يكن من صلاحيات  لجنة المصالحة و الحقيقة في الشيلي منح أو اقتراح العفو في حين أن في جنوب إفريقيا استجابت لجنة الحقيقة و المصالحة لـمائة و خمسة و عشرين مطلب عفو من جملة 7060 مطلبا كما أن لجنة المصالحة في الأوروقواي منحت العفو و أثار قرارها انتقادات كثيرة و يبقى هذا الموضوع رهين خيارات سياسية كما يحتاج الأمر إلى نصوص خاصة عند الاقتضاء ، إلا انه بالنسبة إلى الجرائم التي تكتسي صبغة اقتصادية و مالية كالاستيلاءات على الأموال العمومية فانه يمكن التفكير في إجراء الصلح مع الإدارة على غرار ما هو معمول به في تشريعنا مثل الجرائم الديوانية و كذلك الجرائم المرتكبة في حق تراتيب الصرف و في هذا الصلح إذا تم إقراره فائدة كبيرة لخزينة الدولة إذ يكون مرتكبو تلك الجرائم ملزمين بدفع مبالغ مالية تمثل ما وقع الاستيلاء عليه فيعود ذلك بالفائدة على ميزانية الدولة و يفيدها أكثر من الحكم بالسجن على المذنبين بالإضافة إلى أن الصلح إذا ابرم يكون مظهرا من مظاهر المصالحة و يبقى موضوع العفو في الجرائم التي استهدفت الأشخاص في حياتهم و أجسامهم و حرياتهم مسالة دقيقة و حساسة .
و يتجه التذكير بان العفو في التشريع الوضعي التونسي حاليا ينقسم إلى عفو خاص على معنى الفصل 371 من مجلة الإجراءات الجزائية مبدئيا يمارسه رئيس الجمهورية بناءا على تقرير من وزير العدل بعد اخذ رأي لجنة العفو و العفو التشريعي الذي يكون بمقتضى قانون أساسي.
و في اعتقادنا أن العفو قد يكون ممكنا في بعض الجرائم، على أن يتم ذلك بعد المصالحة و التعويض للمتضررين فيكون العفو تتويجا للمصالحة.      

 و في الختام يمكن القول أن نجاح العدالة الانتقالية يتوقف على جملة من العوامل و الشروط منها توفر إرادة سياسية في تحقيقها. و لعل إنشاء وزارة خاصة بها إلى جانب حقوق الإنسان تجسيم لهذه الإرادة،و منها أيضا تشريك مكونات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية المعنية بالحقوق الأساسية للمواطنين و الكفاءات الوطنية في هذه المنظومة بدون إقصاء و الابتعاد عن الحسابات السياسية. على أن الأهم من كل هذا المصالحة. و لا يتأتى ذلك إلا بالتحلي بفضيلة الصفح و مبدأ الإنصاف و تهدئة الخواطر و التخلص من الضغينة، لأنه يصعب الاستماع إلى صوت العدالة في "صخب أجيج العواطف" كما قال المفكر الكبير مونتسكيو.