vendredi 7 novembre 2014

" التغوّل " السياسي حقيقة أم مناورة سياسية؟


*بقلم الأستاذ عبد الله الأحمدي

 

 

ارتفعت في المدة الأخيرة أصوات بعض الأطرافالسياسية معبّرة عن خشيتها مما أسمته بـ"تغوّل" الأغلبية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة ومن سينجح في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى يوم 23 نوفمبر الجاري؟

نلاحظ في البداية أنه من الناحية اللغوية أن كلمة التغول مشتقة من الغُول الذي له معان عديدة إذ يقول ابن منظور في معجمه المعروف "لسان العرب" إن الغُول هو أحد الغيلان وهي جنس من الشياطين والجن، ويضيف أنالغُول يعني شيطانا يأكل الناس وكل من اغتال الإنسان،وتنطوي كلمة الغُول أيضا على الخبث والتسلط، إذ أنالغُول يعني أيضا الداهية. وجاء في لسان العرب أيضاأن رسول الله قال "لا عدوى ولا هامة ولا صَفرَ ولا غُول ".

أما التغوّل فهو يعني لغة التلوّن تلونا في صور شتى.

على انه من الناحية السياسية فإن المقصود من التغول هو الهيمنة والاستئثار بالحكم والانفراد به.

ويجب أن نضع استعمال مصطلح التغول هذه الأيام في إطاره السياسي، ذلك أنه بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة عبرت بعض الأطرافالسياسية عن تخوفها من " تغّول " من فاز فيها بحصولهم على أغلبية هامة في مجلس نواب الشعب، ويطرح هذا التخويف من "التغول" جملة من تساؤلات،أولها لماذا ظهر الشعور بالخوف في هذا الوقت بالذات،أي قبيل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة؟ ولماذا لم يقع التخويف سابقا من الأغلبية التي كانت ماسكة بزمام الحكم بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011؟ كما أنه ظهرت أيضا الدعوة إلى مرشح "توافقي" لمنصب رئيس الجمهورية لتفادي "التغوّل" المحتمل ؟ وهي دعوة ترمي إلى تحقيق أغراض معينة لا تخفى على أحد.

 

لا مبرّر للخوف من "التغوّل"

 

إن الخوف الذي أبدته بعض الأطراف من تغوّل الأغلبيةليس له أيّ مبرر لعدّة أسباب منها انه لم يحصل أيّ حزب على أغلبيّة مطلقة في انتخابات مجلس نواب الشّعب، ومن ناحية أخرى فإن الدستور تضمّن العديد من الآليّات "والفرامل" التي من شأنها أن تكبح جماح بعض الأجهزةالسياسية في الدولة وتحول دون هيمنة أية سلطة على الأخرى.

لقد أقرّ الدستور في التوطئة مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها مجسما بذلك أهمّ ركائز النظام السياسي الديمقراطي التي نادى بها كبار المفكرين مثل JOHN LOCKE و JEAN BODIN  وخاصة MONTESQUIEUالذي قال في كتابه المعروف "روح القوانين" : " كل إنسانبيده السلطة يميل إلى التعسف فيها إلى أن تعترضه حدود ولكي لا يقع التعسف في السلطة يتعين بحكم طبيعة الأشياء أن توقف السلطة السلطة ".

ولا شكّ أن فصل السلطات يحول دون هيمنة إحداها على الأخرى، مما لا يبقى معه مجال للحديث عن "تغوّل" السلطة التنفيذية أو التشريعية.

 

رئيس الجمهورية المنتخب لا يستطيع أن يكون "متغوّلا" 

 

لقد ضبط الدستور الجديد بكل دقة صلاحيات رئيس الجمهورية وهو يؤدي القسم قبل مباشرته لمهامه ويلتزم باحترام دستور البلاد وتشريعها طبق ما جاء بالفصل 76 من الدستور.

وليس للرئيس صلاحيات مطلقة بل إنها محصورة ومحدودة وتم ضبطها بالفصول من 77 إلى 82 من الدستور ولا يمكنه ممارسة غيرها، ومن مظاهر حدود تلك الصلاحيات أنه لا يمكنه حل مجلس نواب الشعب إلا في حالات معيّنة وبشروط مضبوطة خلافا لصلاحيات رئيس الجمهورية في فرنسا الذي خوّل له الدستور حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) في أي وقت وبدون أيّ شرط وذلك بالفصل 12 من الدستور الفرنسي بعد استشارة الوزير الأول ورئيسي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وقد تمت ممارسة هذه الصلاحيات الهامة في فرنسا أربع مرات عام 1962 و 1968 و 1981 و 1988.

على أن صلاحيات رئيس الجمهورية في دستورنا اقل من صلاحيات رؤساء الجمهوريات في بلدان أخرى ومنها فرنسا رغم أنه يستمد شرعيته مباشرة من الشعب، إذ انه منتخب انتخابا حرا مباشرا طبق الفصل 75 من الدستور، وكان من المفروض أن تكون له أكثر صلاحيات.

ومن ناحية أخرى فانه رغم أن الشعب هو الذي ينتخب رئيس الدولة ولمدة خمس سنوات فانه يمكن إعفاؤه قبل انقضاء تلك المدة طبق الفصل 88 من الدستور الذي خول لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب ولا يتم الإعفاء إلابموافقة ثلثي أعضاء المجلس ثم تتم الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية ثلثي أعضائها ولها أنتقضي بعزله. 

وبناء على ما تقدم فانه فلا شيء يدعو إلى التخويف من "تغوّل" الرئيس خلافا لما يزعمه البعض.

 

نفوذ مجلس نواب الشعب ليس مطلقا

 

لئن كان مجلس نواب الشعب يمثل الشعب بحكم قواعد الديمقراطية النيابية فان نفوذه رغم ذلك ليس مطلقا.حيث لا يمكنه أن يصادق على أي مشروع قانون مخالف للدستور لان النواب ملزمون باحترام أحكامه إذ أنهميؤدون القسم طبق الفصل 52 من الدستور، ذلك أنالمحكمة الدستورية التي تم إحداثها بمقتضى الفصل 118 من الدستور تتولى مراقبة دستورية مشاريع القوانين مما يحول دون مصادقة المجلس على مشاريع قوانين مخالفة للدستور، كما يمكن للمحكمة الدستورية النظر في الدفع بعدم دستورية القوانين عندما يتمسك احد المتقاضين بذلك أمام المحاكم. ويتبين مما تقدم انه رغم شرعية مجلس نواب الشعب والتي لا يمكن لأحد أن ينازع فيها فان عمل هذا المجلس مقيّد بالدستور مما يحول أيضا دون "التغول".

 

الرقابة على عمل الحكومة

 

من المعلوم أن الحكومة تنبثق من مجلس نواب الشعب فهو الذي يمنحها الثقة وله أيضا سحبها منها بمقتضى لائحة لوم بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس طبق الفصل 97 من الدستور. و يجوز أيضا للمجلس سحب الثقة من أحد أعضاء الحكومة وهي مسؤولة أمامه وفي نطاق مراقبة عمل الحكومة يمكن لأيّ نائب أن يتقدم إلىالحكومة بأسئلة كتابية أو شفاهية طبق الفصل 96 من الدستور، وبذلك فإن الحكومة تخضع لرقابة مجلس نواب الشعب مما يحول أيضا دون تجاوز صلاحيتها أو"تغوّلها"، ولا شك أن رئيس الحكومة يتمتع بصلاحيات كبيرة لعلها أهم من صلاحيات رئيس الجمهورية في بعض المهام فهو يحدث ويعدّل ويحذف الوزارات ويقيل أعضاء الحكومة ويضبط السياسة العامة للبلاد الأمرالذي يخشى معه حدوث نزاعات بينه وبين رئيس الجمهورية، وفي هذه الصورة تبت المحكمة الدستورية فيها طبق الفصل 101 من الدستور.

 

الحديث عن "تغوّل" الأغلبية نكران للديمقراطية

 

أجمع جهابذة أساتذة العلوم السياسية والقانون الدستوري أن في الأنظمة الديمقراطية تتولى الأغلبيةالتي أفرزتها الانتخابات التشريعية تكوين الحكومة، وقد كرّس الفصل 89 هذا المبدأ، إذ ينص على أنّ رئيس الجمهورية يكلف مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي على اكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب لتولي تكوين الحكومة، مما يجعل ممارسة الأغلبية للحكم تكريسا ومظهرا من مظاهر الديمقراطية وان التثريب على الأغلبية ممارسة حقها في تسيير شؤون البلاد يتجافى مع مبادئ الديمقراطية.

ولا شك أن في العديد من الدول العريقة في الديمقراطية تجرى انتخابات تشريعية وأخرى رئاسية فتحصل أغلبيةبرلمانية والمتمثلة في مجموع النواب وأغلبية رئاسية تكمن في القوى السياسية التي تنتخب رئيس الجمهورية، وفي جل الحالات يحصل أن تكون الأغلبية البرلمانية هي نفسها الأغلبية الرئاسية، وفي هذه الصورة يتمتع رئيس الجمهورية بتأييد الأغلبية البرلمانية عندما تنبثق عن الحزب الذي ينتمي إليه وهذا ما وقع في العديد من الدول التي تنتسب إلى الديمقراطيات الكبرى مثل ألمانياواسبانيا وغيرها من الدول التي تبنت الأنظمة البرلمانية أين تكون للسلطة التنفيذية أغلبية مطلقة في البرلمان،وهذه الوضعية إن حدثت في تونس فإنها لن تكون بدعة بل هي ظاهرة موجودة منذ القدم. ونذكر على سبيل المثال أن في فرنسا عادة ما يكون رئيس الجمهورية ينتمي إلىالحزب الذي له الأغلبية المطلقة في البرلمان مثلما هو الشأن الآن باستثناء بعض الحالات الخاصة عندما يفقد رئيس الجمهورية الأغلبية البرلمانية فينقلب دوره إلى مجرد حكم وأطلق على هذه الوضعية "التعايش" (cohabitation) وقد حدث ذلك في فرنسا عام 1986 و 1993 .

وتأسيسا على ما تقدم، فانه حتى إذا كان رئيس الجمهورية يحظى بتأييد الأغلبية البرلمانية إذا كانت تنتمي إلى حزبه فإن ذلك لا يتعارض مع الديمقراطية بل ربما يسهل عمل الحكومة، ولا يمكن الحديث في هذه الصورة عن "التغول" مادام الشعب هو الذي انتخب نوابه بالمجلس وكذلك رئيس الجمهورية وهو صاحب السيادة،مما يجعل الحديث عن "التغوّل" في غير طريقه، إذ كل ما هو شرعي لا يشكل "تغوّلا".

على أن ممارسة الأغلبية للحكم لا يعني اضطهاد الأقلية أو المعارضة التي لها أن تمارس حقوقها السياسية. وقد نص الفصل 60 من الدستور على أن المعارضة مكوّن أساسي في مجلس نواب الشعب لها حقوقها التي تمكّنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي.

ويمكن القول في الختام إن التخوّف الذي أبدته بعض الأصوات من "التغوّل" هو تخوّف مفتعل باعتبار أنأحكام الدستور تحول دون حصول هيمنة أية سلطة على الأخرى ولعلّ التعبير على هذا الشعور في هذا الوقت بالذات من قبيل المناورة السياسية أكثر منه تخوف حقيقي أو مبرّر.

 

* دكتور دولة ومبرز في الحقوق

 

 

 

 

mercredi 19 février 2014

العدالة الانتقالية بين ضمانات الحقوق الأساسية واحترام الدستور

العدالة الانتقالية بين ضمانات الحقوق الأساسية واحترام الدستور

                                                                       بقلم الأستاذ عبد الله الأحمدي
                                                                      دكتور دولة ومبرز في القانون الخاص
                                                                       والعلوم الجنائية ومختص في حقوق الإنسان

صادق المجلس الوطني التأسيسي على قانون العدالة الانتقالية وفي ساعة متأخرة من الليل بعد أن مضى هزيع منه وبأغلبية قليلة وفي غياب مؤسف لعدد كبير من النواب. وقد أضيفت خلال المناقشة فقرات لم تكن موجودة في مشروع القانون وكانت العديد من أحكامه موضوع توافقات أو بالأحرى صفقات بين بعض الكتل النيابية. ولا شكّ في أنه عند صياغة مشروع القانون ولدى مناقشته كان بعضهم ملتفتين إلى الماضي البعيد والقريب يحدوهم عزم على تصفية حسابات سياسية قديمة، بدليل أن العدالة الانتقالية تشمل الفترة الممتدة من غرة جويلية 1955 ولم يكن اختيار هذا التاريخ بالذات عفويا، إذ كانت عقول البعض الآخر مشرئبة نحو المستقبل القريب، مركزين اهتماماتهم على الانتخابات المقبلة، محاولين إقصاء خصومهم من الحياة السياسية بالبلاد.
              
العدالة الانتقالية لا تعني التشفي بل المصالحة

نبادر إلى القول بأن مؤسسة العدالة الانتقالية ليست بدعة، إذ وقع العمل بها في العديد من البلدان الأوروبية والإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية بعد النزاعات الدامية والثورات التي عرفتها تلك البلدان، ونجحت العدالة الانتقالية في تحقيق أهدافها وهي مؤاخذة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان باقتراف جرائم القتل والتعذيب على وجه الخصوص، ومن الطبيعي تتبع ومعاقبة هؤلاء نظرا إلى خطورة الجرائم المرتكبة وإنصافا للضحايا. إلا أنّ ما يجب ألاّ يغيب عن الأذهان أيضا أنّ  من أهم أهداف العدالة الانتقالية تحقيق المصالحة الوطنية والصفح والعفو، لأن هذه العدالة " هي طريق إلى المصالحة ". وكان هذا شعار هيئة الحقيقة والمصالحة في جنوب  إفريقيا. وتأكيدا لهذا التوجه، اندلع في العالم خلال الفترة المتراوحة بين سنة 1945 وسنة 2008 : 313 نزاعا، انتهى 126 نزاعا منها  بعفو عام، وهذا ما وقع في لبنان والبرتغال وإسبانيا والموزنبيق. وفي هذا السياق قال الجنرال دي قول بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها "إن فرنسا ليست في حاجة إلى الحقيقة بل تحتاج إلى الأمل والوئام". كما قال رجل الدين الجنوب إفريقي TUTU "لا مستقبل بدون صفح"، وقد اجمع المختصون في العدالة الانتقالية أنها ترتكز على بعض العناصر منها إنصاف الضحايا وضمان استقرار الديمقراطية الناشئة والعمل على أن تحترم الدولة حقوق الإنسان وتجنب العنف السياسي. غير أنه يتعين أن تكون للعدالة الانتقالية ضوابط حتى لا تتقلب إلى التشفي والأخذ بالثار. ولضمان ذلك يجب أن تكون عادلة، ولا تكون كذلك إلا إذا احترمت فيها المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان، خاصة أثناء المحاكمات، مهما كانت فضاعة الجرم المرتكبة. وقد تمّ التنصيص على تلك المبادئ والضوابط في المواثيق والمعاهدات الدولية والإقليمية وفي جل الدساتير.
 وبالرجوع إلى قانون العدالة الانتقالية يتبين أنه يتضمن أحكاما تتجافى مع روحها ومقاصدها إذ وقع التركيز في هذا القانون على فكرة المساءلة وعدم الإفلات من العقاب، وتكرار هذه الفكرة بعدة فصول، في حين لم يخصص للمصالحة سوى فصل واحد تقريبا، هذا بالإضافة إلى طريقة تعيين أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة، إذ يتم اختيارهم من قبل لجنة تتركب من رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورؤساء الكتل النيابية بالتوافق، مما يجعل اختيار أعضاء الهيئة يكون على أساس المحاصة الحزبية، باعتبار أن الكتل النيابية تمثل أحزابا لها نواب بالمجلس، هذا فضلا عن نقائص أخرى عديدة وهامة لا يسمح المقام بالتوسع فيها.

أحكام مخالفة للحقوق الأساسية للإنسان والمواثيق الدولية

لكن الأخطر مما تقدم، دسترة العدالة الانتقالية من خلال إدراجها في الأحكام الانتقالية للدستور، وبالتحديد بالفقرة 9 من الفصل 148 الذي أضيف من قبل لجنة التوافقات بالمجلس الوطني التأسيسي.
وجاء في هذه الفقرة ما يلي: " تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن".
إن إدراج هذه الفقرة في الدستور يثير تساؤلات عديدة وله انعكاسات خطرة على مسار العدالة الانتقالية وجعلها مخالفة للقانون الدولي لحقوق الإنسان عامة وللمحاكمة العادلة خاصة، و يتجلى ذلك في ما يلي:
1/ لا وجود لأي مبرر للتنصيص على منظومة العدالة الانتقالية في الدستور باعتبارها وقتية لأنها محدودة زمنيا طبق الفصل 18 من القانون، في حين أن الدستور ينظم مبدئيا المؤسسات الدستورية الدائمة مثل القضاء والمحكمة الدستورية والحكومة والسلطة التشريعية وغير ذلك من المؤسسات.
2/ لقد صدر قانون خاص بالعدالة الانتقالية وتضمن عدة أبواب شملت كل المسائل المتعلقة بهذه المنظومة، ولا داعي لإدراجها في الدستور، بالإضافة إلى أنها فقرة مسقطة لا علاقة لها بالأحكام الانتقالية.
3/ لا جدوى من التنصيص في هذه الفقرة على أنّ الدولة تلتزم بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية لأن هذا الالتزام بديهي باعتبار أن الدولة ملزمة بتطبيق كل القوانين وتفعيلها دون حاجة إلى مطالبتها بذلك.
4/ هناك سؤال يطرح نفسه ويتمثل في معرفة الغاية الحقيقية من إدراج الفقرة المشار إليها في الدستور؟
في تقديرنا أن الغرض المقصود من إدراج هذه الفقرة هو حرمان من ستقع مقاضاتهم في نطاق العدالة الانتقالية من التمسك بعدم دستورية بعض أحكام هذه المنظومة، علما بأن المبادئ الواردة في هذه الفقرة متناقضة جزئيا حتى مع بعض أحكام الدستور الجديد، وخاصة الباب المتعلق بالحقوق والحريات وفق ما سيقع بيانه.
5/ تضمنت الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور ثلاث قواعد منازع فيها وغير مستساغة وفيها خرق لحقوق الإنسان الأساسية المنصوص عليها بالعهود والمواثيق الدولية والإقليمية المتعلقة بحقوق الإنسان ويتجلى ذلك فيما يلي:
-         القاعدة الأولى: منع التمسك بعدم رجعية القوانين:
حجّرت الفقرة المشار إليها على الأشخاص الذين يمكن مساءلتهم في نطاق العدالة الانتقالية التمسك بالدفع بعدم رجعية القوانين. ومعلوم أن مبدأ عدم رجعية القوانين يعني أن القوانين الجزائية بالخصوص لا تنطبق إلا على الأفعال المرتكبة بعد صدورها، أما ما اقترف قبل ذلك فإنه يخضع للقانون الذي كان ساري المفعول في تاريخ ارتكابها، إلا إذا تعلق الأمر بقانون أرفق بالمتهم. وإذا لم يكن الفعل المرتكب مجرّما ساعة ارتكابه فإنه لا جريمة ولا عقاب عملا بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وهو مبدأ أقرته كل القوانين في مختلف أنحاء العالم تقريبا وله قيمة دستورية ولا يمكن النيل منه، وقد أقره المشرّع التونسي بالفصل الأول من المجلة الجزائية التي مضى قرن على صدورها في بلادنا، إذ ينصّ هذا الفصل على أنه "لا يعاقب أحد إلا بمقتضى نص قانوني سابق الوضع، لكن إذا وضع قانون بعد وقوع الفعل وقبل الحكم البات وكان نصه أرفق بالمتهم فالحكم يقع بمقتضاه دون غيره".  كما أن جميع المواثيق العالمية والإقليمية المتعلقة بحقوق الإنسان أقرت نفس هذه القاعدة، من ذلك أنه جاء بالمادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انخرطت فيه تونس بمقتضى القانون عدد 30 الصادر في 29 نوفمبر 1968 أنه " لا يدان أي فرد بأية جريمة بسبب فعل أو امتناع عن فعل لم يكن وقت ارتكابه يشكل جريمة بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا يجوز فرض أية عقوبة تكون أشدّ من تلك التي كانت سارية المفعول في الوقت الذي ارتكبت فيه الجريمة "، ومعلوم أن هذه القاعدة تندرج في مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، والذي كرّسه أيضا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالمادة 11 الفقرة 2 وجاء فيها "لا يدان أي شخص بجريمة بسبب أي عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرما بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا توقع عليه أية عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي".
  ونصّت المادة 24 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على نفس القاعدة، إذ جاء فيها " لا يسأل الشخص جنائيا بموجب هذا النظام عن سلوك سابقا لبدء نفاذ النظام ".
ونصت الفقرة 2 من المادة 7 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والذي انخرطت فيه تونس بموجب القانون عدد 64 لسنة 1982 المؤرخ في 06/08/1982 أنه " لا يجوز إدانة شخص بسبب عمل أو امتناع عن عمل لا يشكل جرما يعاقب عليه القانون وقت ارتكابه ولا عقوبة إلا بنص والعقوبة شخصية".
وفي ذات الإطار، تنص المادة 95 من الدستور المصري الجديد المصادق عليه بمقتضى الاستفتاء الذي أجري في منتصف شهر جانفي المنقضي على" أن العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون".

تناقض بين نصين دستوريين !

على أن الأهم والأخطر من ذلك أن القاعدة الواردة بالفقرة المشار إليها والمتمثلة في منع التمسك بعدم رجعية القوانين تتناقض مع الفصل 28 من الدستور الذي نص على أن " العقوبة شخصية ولا تكون إلا بمقتضى نص قانوني سابق الوضع عدا حالة النص الأرفق بالمتهم ".
إن هذا التناقض بين نصين دستوريين يطرح إشكالية كيفية التوفيق بينهما، إذ لا يمكن التنصيص على مبدأ عدم رجعية القوانين بالفصل 28 من جهة ومنع التمسك بهذا المبدأ من جهة أخرى بالفقرة 9 من الفصل 148 في ميدان العدالة الانتقالية وهي فقرة تجيز تطبيق نص جزائي جديد على أفعال اقترفت في الماضي قبل صدور القانون الجديد حتى ولو كانت تلك الأفعال غير مجرمة في تاريخ اقترافها وهذا غير معقول تماما.
ونتساءل عن موقف القضاء إذا أثيرت هذه الإشكالية أمامه خاصة بعد إحداث المحكمة الدستورية بمقتضى الدستور الجديد، وقد خوّل الفصل 120 منه للمتقاضين التمسك بالدفع بعدم دستورية القوانين، وأقر أنه في هذه الصورة تتعهد المحكمة المذكورة بالموضوع للبت فيه. وفي هذا السياق نطرح الإشكالية التي يثيرها تزوير الانتخابات مثلا، وهي من الأفعال التي تشملها العدالة الانتقالية. ويتمثل الإشكال في أن هذه الفعلة لم تكن مجرّمة في المجلة الانتخابية الصادرة في 8 أفريل 1969 التي خضعت لها كل الانتخابات السابقة التي جرت بعد الاستقلال وقبل الثورة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى القوانين السابقة لها، ومنها القانون عدد 86 المؤرخ في 30 جويلية 1959 ، ولم يقع تجريم تدليس الانتخابات إلا في المرسوم عدد 35 الصادر في 10 ماي 2011 وهو ليس نصا عاما بل هو خاص بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت يوم 23 أكتوبر 2011. والمفروض أن هذا المرسوم لا ينطبق إلا على مرتكبي التدليس في تلك الانتخابات لأنه خاص بها دون سواها، اللهم إن وقع سن قانون جديد عام يجرّم تزوير الانتخابات، وفي صورة تطبيقه على عمليات التزوير التي تكون ارتكبت في الماضي البعيد أو القريب قبل صدوره، فإن ذلك يتعارض مع مبدأ عدم رجعية القوانين وشرعية الجرائم والعقوبات، وخاصة الفصل 28 من الدستور الجديد. وقد جاء مطلقا فيؤخذ على إطلاقه، إذ لم يتضمن أي استثناء. وقد نص الفصل 146 من هذا الدستور على أنه " تفسر أحكامه ويؤول بعضها البعض كوحدة منسجمة".
- القاعدة الثانية: عدم إمكانية التمسك باتصال القضاء أو عفو:
جاء أيضاً في الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور الجديد عدم إمكانية التمسك بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء ".
إن هذه القاعدة على غاية من الخطورة والغرابة، ذلك أنها تجيز في نهاية الأمر محاكمة شخص مرتين من أجل فعلة واحدة أو رغم انتفاعه بعفو.
إن محاكمة شخص مرتين، ويعبّر عن ذلك اصطلاحا بـقاعدة (Non bis in idem) ، محجّر أيضا في جميع المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، ومنها الفقرة السابعة من المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي جاء فيها " لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو برّيء منها بحكم نهائي وفقا للقانون وللإجراءات الجنائية في كل بلد ".
وتضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نفس القاعدة بالمادة 20.
ونصت المادة 19 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان أنه "لا تجوز محاكمة شخص عن نفس الجرم مرتين".
تعتبر قاعدة عدم محاكمة شخص مرتين من أجل نفس الفعلة من الضمانات والحقوق الأساسية للإنسان ضرورة أنّ اتصال القضاء هو من أهم أسباب انقضاء الدعوى العمومية طبق الفصل 4 من مجلة الإجراءات الجزائية، كما أنها تكرّس العدل، إذ لا يمكن محاكمة شخص من أجل نفس جريمة مرتين، وهي من مقومات دولة القانون والمحاكمة العادلة التي يتمتع بها كل متهم طبق الفصل 27 من دستورنا الجديد وليس من العدل في شيء محاكمة شخص مرتين من اجل نفس الفعلة. وقد نص الفصل 132 من نفس المجلة على أنه "لا يمكن تتبع من حكم ببراءته من جديد لأجل نفس الأفعال ولو تحت وصف قانوني آخر.
 إن إدراج الفقرة المشار إليها في الدستور الجديد سيمكّن من إعادة محاكمة أشخاص مرة ثانية، رغم أنهم حوكموا سابقا من أجل نفس الجريمة سواء أدينوا أو صدرت أحكام ببراءتهم أو حتى ولو انتفعوا بالعفو وهذا غير مقبول، علما بأنه إذا صدر حكم جزائي بات فإنه يحرز على قوة اتصال القضاء ويصبح حجة على الكافة، ولا يجوز إعادة النظر في المحاكمة السابقة إلا عن طريق طلب إعادة النظر في حالات محصورة وصعبة التحقق.
وإذا طبقنا القاعدة الواردة بهذه الفقرة فان الأشخاص الذين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان بالمعنى الوارد في قانون العدالة الانتقالية وانتفعوا بالعفو سواء قبل الثورة وبعدها يمكن إعادة محاكمتهم.
- القاعدة الثالثة: عدم التمسك بسقوط الدعوى بمرور الزمن:
أقرت الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور عدم إمكانية التمسك بسقوط الدعوى بمرور الزمن، مما يمكّن من محاكمة أيّ شخص ارتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها بقانون العدالة الانتقالية منذ غرة جويلية 1955 ، أي منذ ما يزيد على خمسة وخمسين سنة، الأمر الذي يثير عدة صعوبات من حيث جمع الأدلة المثبتة لارتكاب الجرائم إذ هناك عدة وثائق قد تكون أتلفت أو ضاعت بطريقة أو بأخرى أو حتى الصعوبات المتأتية من حالة المتهمين من حيث السن، فضلا على وفاة العديد منهم.
والملاحظ في هذا السياق أن المادة 29 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نصت على عدم سقوط الجرائم الداخلة في اختصاص هذه المحكمة بمرور الزمن، إلا أنه يمكن تفسير هذه القاعدة بفضاعة تلك الجرائم، وهي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان، في حين أن بعض الجرائم المنصوص عليها في قانون العدالة الانتقالية أقل فضاعة بكثير من الجرائم المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مثل تزوير الانتخابات الذي لم يكن مجرما في الماضي، وحتى قانون تلك المحكمة ليس له مفعول رجعي، إذ صدر عام 1998 ولا ينطبق إلا على الجرائم المرتكبة بداية من غرة جويلية 2002، خلافا لما جاء في الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور التي لها مفعول رجعي وتنطبق على الجرائم المرتكبة قبل سنّ قانون العدالة الانتقالية.
إن إقرار عدم سقوط الدعاوى بمرور الزمن سيؤدي إلى نتائج سيئة إذ سيمكن من مساءلة أشخاص ارتكبوا أفعالا منذ ما يزيد عن نصف قرن وفي ذلك أحياء للأحقاد وقد يشجع على نبش التاريخ البعيد و إثارة الشكايات والخصومات وهذا يتجافى مع روح المصالحة المنشودة كما انه سيغرق هيئة الحقيقة والكرامة بآلاف الشكايات خاصة وان من بين أهدافها الحصول على تعويضات.
6/ إن إدراج هذه الفقرة في الدستور الجديد لن يزينه بل يشينه، وكان بالإمكان تفادي ذلك خاصة وانه دستور مرضي وتضمن أحكاما ايجابية ومبادئ أساسية تتعلق بحقوق الإنسان خاصة في الباب الثاني منه.
7/ وفي اعتقادنا أن إدراج الفقرة التاسعة من الفصل 148 من الدستور يتعارض مع المبادئ والقواعد التي أقرتها مختلف المواثيق الدولية وجل دساتير العالم.

نزعة المحاسبة والعقاب والتعويضات تغلب على روح المصالحة والصفح

إن المتمعن في بعض أحكام قانون العدالة الانتقالية عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24/12/2013 يلاحظ أنها مجحفة ومخالفة لمبادئ الأساسية والعامة التي تخضع لها المنظومة الجزائية وخاصة حقوق المتهم الشرعية، ولا مبرر لإقرار مثل تلك الأحكام. فالمفروض أن تكون منظومة العدالة الانتقالية مطابقة لشروط ومقومات المحاكمة العادلة ومحترمة لحقوق الإنسان، إذ أن إنصاف ضحايا الجرائم يجب أن يكون في نطاق العدل والإنصاف واحترام حقوق المتهمين أيضا حتى ولو ثبتت إدانتهم. كما أن المتأمل في بعض أحكام القانون المذكور يلاحظ تغلب نزعة المساءلة والمحاسبة والعقاب أكثر من روح التسامح والمصالحة ولعل من مظاهر هذه النزعة أن الفصل 45 من القانون نص على إحداث لجنة للتحكيم والمصالحة صلب هيئة الحقيقة والكرامة وهي تنظر في ملفات الانتهاكات بناءا على قواعد العدل والإنصاف وجاء في هذا الفصل أن في حالات الانتهاكات الجسيمة لا يحول قرار اللجنة دون مساءلة مرتكبي الانتهاكات على أن يؤخذ قرارها بعين الاعتبار عند تقدير العقاب ومعلوم أن هذه اللجنة تصدر قرارا تحكيميّا بين الضحايا ومرتكبي الانتهاكات وهي التي تحدد طبيعة الأضرار وقيمتها وطرق جبرها ولا يمكن الطعن في القرار التحكيمي بأي وجه من أوجه الطعن أو الإبطال أو دعوى تجاوز السلطة طبق الفصل 50 من نفس القانون وهي قاعدة قابلة للنقاش إذ لا يمكن حرمان المطالب بالتعويض من حقه المشروع في الطعن على الأقل في بعض الحالات الخاصة ومعلوم أن مسالة التعويضات كانت من أهم المواضيع التي ارتكز عليها قانون العدالة الانتقالية وقد خصّص له باب كامل.
وإذا كانت التعويضات من حقوق المتضررين فانه يجب ألاّ تكون الهاجس الأول إذ أن المصالحة لا تقل أهمية عنها في العدالة الانتقالية.
إننا في اشد الحاجة إلى مزيد التضامن والوئام والتسامح إذ بدون ذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة الوطنية التي أشارت إليها توطئة الدستور، إذ تضمنت أن تلك الوحدة قائمة على "المواطنة والأخوة" ولا يمكن أن نتصور أخوة بدون توفر قيمة التسامح.
وتستوقفنا في هذا الإطار ما نصّ عليه الفصل 15 من الدستور المؤقت لجنوب إفريقيا وجاء فيه " إن الحاجة إلى التفاهم ولا إلى الانتقام والى التعويض لا إلى الأخذ بالثأر والى الوحدة والمصالحة الوطنية ولا ضحايا جدد ".
وتمنينا لو وقع التنصيص على مثل هذه المبادئ السامية سواء في قانون العدالة الانتقالية وحتّى الدستور، لكن تحقيق الأماني صعب المنال إذ أحيانا تجري السياسة بما لا تشتهي المبادئ.
ولا يخفى على احد أن تعاليم الإسلام تتضمن قيم الصفح إذ قال تعالى جل ذكره في كتابه العزيز
" فاصفح الصفح الجميل" وقال أيضا في محكم تنزيله " فأعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" صدق الله العظيم