mercredi 17 octobre 2012

مفهوم توطئة الدستور و قيمتها السياسية و القانونية



شرع المجلس الوطني التأسيسي في إعداد صياغة الدستور الجديد و تكونت لهذا الغرض عدة لجان من بينها "لجنة التوطئة و المبادئ الأساسية و تعديل الدستور" وهي في اعتقادنا من أهم اللجان نظرا للمكانة المتميزة للتوطئة في الدستورو يتجه الوقوف على مفهومها ووظيفتها وقيمتها من الناحية السياسية و القانونية. لعله من المفيد الإشارة إلى أن الدساتير العربية على حد علمنا لم تستعمل مصطلح التوطئة التي هى ترجمة لعبارة  préambule  إذ أن واضعي تلك الدساتير فضلوا استعمال مصطلحات أخرى منها لفظة مقدمة (دستور دولة الإمارات العربية المتحدة)و الديباجة (دستور جمهورية مصر العربية و العراق و الجزائر و   موريطانيا) و تمهيد (دستور المملكة المغريبة )

و يمكن القول أن البلاد التونسية انفردت باستعمال مصطلح التوطئة في دستور غرة جوان 1959.و هذه العبارة مشتقة لغة من فعل وطأ و يعني هيأ و يقول ابن الأثير التوطئة هي التمهيد أما اصطلاحا فان معاجم القانون الدستوري تعرف التوطئة بكونها وثيقة تتضمن الإعلان عن مبادئ أو حقوق أو توجهات  عامة و الفلسفة السياسية التي يقوم عليها نظام الحكم. و يختلف محتوى التوطئات من دستور إلى أخر حسب أوضاع كل بلد و خاصة الظروف السياسية و الاجتماعية و غيرها التي يتم فيها وضع الدستور كما أن التوطئة عادة ما تكون قصيرة أو متوسطة و نادرا ما تكون طويلة من ذلك أن توطئة دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر في 17 سبتمبر 1787 قصيرة جد اذ لم تتجاوز ستة اسطر و كذلك الشأن تقريبا لتوطئة القانون الأساسي الألماني و هو دستور ألمانيا الصادر في 23 ماي 1949 و التي كادت أن تقتصر على التنصيص على مقاطعات ألمانيا الاتحادية آنذاك مع إشارة قصيرة التي إرادة الشعب الألماني في خدمة السلام في العالم و مسؤوليته أمام الله و البشر  كما أن توطئة الدستور الفرنسي الحالي الصادر كما هو معلوم في 4 أكتوبر 1958 قصيرة لم تتعد 10 اسطر خلافا لتوطئة  دستور فرنسا القديم الصادر في 27 أكتوبر 1946 التي تعد من التوطئات الطويلة النادرة إذ تضمنت العديد من حقوق الإنسان و من أهمها الحقوق الاجتماعية و حقوق المرأة و الطفل و التضامن و المساواة و تجدر الإشارة أيضا إلى أن بعض الدساتير لاتتضمن أية توطئة مثل الدستور الايطالي الصادر في 27 ديسمبر 1947 إذ اقتصر واضعوه على تخصيص 12 فصلا للمبادئ الأساسية و لا شك ان دستورنا الجديد سيشتمل على توطئة ما دام قد تم تكوين لجنة خاصة بها فما هو المطلوب في صياغتها و محتواها و ما هي قيمتها سياسيا و قانونيا .
لقد اختلفت الآراء حول هذا السؤال الهام إذ كان ظهر في السابق اتجاهان كبيران يرى  
أصحاب الأول و هو قديم  مثل الأستاذين      Carré De Malberg  وEsmein   
انه ليست للتوطئة قيمة قانونية على أن هذا الاتجاه قد تجاوزته الأحداث إذ أن الرأي السائد اليوم لدى شراح القانون الدستوري و فقه القضاء الدستوري أن للتوطئة قيمة قانونية كاملة و أن جميع أحكام الدستور بما في ذلك التوطئة لها نفس القيمة الدستورية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الدستور و هي متصلة به و هي مدمجة في ما سمي بمجموع النصوص التي تتم على ضوئها مراقبة دستورية القوانين و معنى ذلك أن القوانين التي تكون مخالفة للمبادئ الواردة في التوطئة تعتبر غير مطابقة للدستور و غير متلائمة معه و قد صدر في هذا الاتجاه قرار هام عن المجلس الدستوري  الفرنسي في 16 جويلية 1971 و المتعلق بحرية تكوين الجمعيات و في تونس توخي المجلس الدستوري نفس هذا الاتجاه في بعض أرائه في مشاريع القوانين التي عرضت عليه نذكر منها الرأي الذي أبداه في 15 جوان 1996 الخاص بمشروع القانون المتعلق بإصدار مجلة المعاليم و الإتاوات المحلية و الرأي الصادر في 12 نوفمبر   1998 المتعلق بتنقيح القانون عدد 34 المؤرخ في 17 افريل 1995 و قد اعتمد المجلس الدستوري في هاذين الرأيين توطئة الدستور للتثبت من مطابقة و ملائمة مشاريع القوانين المعروضة علية للدستور و معني ذلك أن للتوطئة نفس قيمة أحكام الدستور .
و من الناحية السياسية فان للتوطئة أهمية كبيرة باعتبارها كما أسلفنا تتضمن
 الفلسفة السياسية لنظام الحكم و المبادئ العامة التي يرتكز علها و هذا ما نلمسه في توطئة دستور غرة جوان 1959 التي أشارت  إلى جملة من القيم و المبادئ منها الديمقراطية و سيادة الشعب و قاعدة تفريق السلط و النظام الجمهوري.
و نظرا للقيمة القانونية و السياسية للدستور فانه لابد من إتقان صياغتها و ذلك بتوخي الوضوح والسلاسة في التركيب و انتقاء مصطلحات و عبارات واضحة و تفادى الكلمات التي قد يكتنفها بعض الغموض أو يدق فهمها فيؤول الأمر إلى التأويلات و تباين الآراء حول مدلولها و يستحسن استعمال المطلحات المتداولة في لغة القانون و خاصة في القانون الدستوري و العلوم السياسية كما يتعين أن لا تكون التوطئة طويلة إذ يحسن أن تكون موجزة و أن تقتصر على جملة من المبادئ الأساسية العامة دون الدخول في التفاصيل و يمكن الاستلهام من توطئة دساتير بعض الدول العريقة في الديمقراطية .أما محتوى التوطئة فالمفروض أن  تتضمن الإشارة إلى ثورة 14 جانفي 2011 و المبادئ التي اندلعت من اجلها كالحرية و الكرامة و التضامن و المساواة و التوازن بين الجهات و حقها في التنمية و كذلك الحق في الشغل كما يجب أن تتضمن جملة من المبادئ الأساسية ذات الصلة بتنظيم السلطة العامة و في مقدمتها الديمقراطية و الفصل بين السلط والصبغة المدنية للحكم و الحداثة و التعددية الفكرية و السياسية و انتماء تونس إلى محيطها العربي و الإسلامي و المتوسطي و المغاربي و تعلقها بميثاق الأمم المتحدة و المبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و بصفة عامة يجب أن تستجيب المبادئ التي سيقع التنصيص عليها في الدستور لتطلعات الشعب و كذلك الشأن بالنسبة لأحكام الدستور الذي يعد قانون القوانين على حد تعبير بعض فقهاء القانون الدستوري باعتباره يضبط طريقة تعيين الحاكمين و صلاحياتهم كما يضبط حقوق و حريات المواطنين فضلا على أن أحكامه تكتسي في نفس الوقت صبغة قانونية وسياسية و تعد عملية صياغة الدستور مسؤولية تاريخية جسيمة على عاتق المجلس الوطني التأسيسي الذي عليه أن يأخذ بعين الاعتبار لكل الاتجاهات الفكرية في البلاد و أن يستمع بالخصوص إلى مكونات المجتمع المدني بدون إقصاء و كذلك الأخذ بعين الاعتبار لبقية أصوات التونسيين الذين لم يشاركوا في انتخاب المجلس و هم كثيرون إذ المفروض أن يكون الدستور الجديد هو دستور كافة الشعب التونسي و ليس دستور كتلة معينة من الأحزاب أو تكريس لاديولوجية محددة كما انه تجسيما للوحدة الوطنية نرجو حصول توافق على أحكام الدستور الجديد و الابتعاد عن منطق الحسابات الظرفية الضيقة مهما كانت طبيعتها لان الدستور سيكون صالحا  لعشرات السنين وحتى لقرون وليس لفترة محدودة وهو ينظم الحياة السياسية بالبلاد لعدة أجيال .

دولة القانون و هيبتها



تعيش البلاد بعد ثورة 14 جانفي 2011 أحداثا هامة و عديدة و خطرة أحيانا تجلت في عدة مظاهر منها ما هو ايجابي مثل حرية التعبير و تنوع و ثراء المشهد الإعلامي و كثرة منابر الحوارات و التعددية السياسية المكرسة في تكوين عشرات الأحزاب بمختلف اتجاهاتها و منها  ما هو سلبي مثل حالة الفوضى في بعض الجهات و الانفلاتات في ميادين شتى و خاصة ظاهرة التمرد على القانون .
و لا شك انه يمكن أحيانا تفهم بعض هذه الأحداث نظرا للأسباب التي أدت إليها و منها مشروعية الطلبات مثل التشغيل و التنمية و التوازن بين الجهات و رفض التهميش غير ان بعض التصرفات الأخرى لا نجد لها مبررات وجيهة إذ تبدو منافية لجملة من المبادئ منها مقومات دولة القانون و هيبتها و يتعين الوقوف على هذين المفهومين قبل التعرض لكيفية مخالفة بعض التصرفات لهما .

1/مفهوم دولة القانون :
من المعلوم انه ظهر هذا المصطلح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لدى الفقه القانوني الألماني و هي ترجمة للعبارة الألمانية  RESCHTSSTAAT المتركبة من كلمتين هما القانون و الدولة و ساهم المفكر الألماني KANT في وضع المقدمات الابستمولوجية لنظرية دولة القانون إذ تقوم فلسفته على سيادة القانون و من كبار منظري دولة القانون في فرنسا CARRé de MALBERG  الذي ميز بين دولة القانون و الدولة القانونية و كذلك الأستاذJEAN CHEVALIER  الذي أكد أن كل استعمال للقوة يجب أن يكون مؤسسا على قاعدة قانونية  و إن الذي يحد من قوة دولة القانون هي الحقوق الأساسية المعترف بها للأفراد و أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بحماية حقوق الإنسان و الديمقراطية .
و يمكن القول أن دولة القانون هي التي تخضع في علاقاتها مع مواطنيها لنظام قانوني فالسلطة لا تستعمل سوى الوسائل التي يبيحها القانون كما أن مختلف أجهزة الدولة لا تتصرف إلا بمقتضى تأهيل قانوني على حد تعبير احد الأساتذة كما أن دولة القانون هي التي تحترم القانون و تفرض احترامه على مواطنيها و هي تعاملهم على أساس قواعد عامة و مسبقة و هي بذلك نقيض دولة البوليس التي تتسم بقوة السلطة الإدارية و التي تتخذ و تطبق إجراءات بصفة اعتباطية لمجابهة ظروف معينة و يعتبر الأستاذ PAUL MORAND أن دولة البوليس ليست دولة متحضرة « un état policier n’est pas un état policé » بينما في دولة القانون تخضع الإدارة نفسها أيضا لجملة من القواعد العامة و العليا و هي تتقيد بها و تفرض عليها و ظهرت نظرية الحد الذاتي التي تعني احترام الدولة للقانون بصفة إرادية من تلقاء نفسها .
و في هذا السياق يقول الأستاذ JEAN RIVERO  " أن دولة القانون هي التي تجد فيه قوة السلطة حدودها في القاعدة القانونية الملزمة باحترامها "
 و ان قوة الدولة تكمن في مشروعيتها و إقرارها لقواعد ملزمة لجميع الناس و يرى المفكر A.RENAUT   "أن الفضاء الاجتماعي ينقسم إلى دائرتين هما الدولة من جهة و المجتمع من جهة أخرى و انه ليس للدولة إن تفعل ما تريد  إذ توجد حدود موضوعية لنشاطها ناتجة عن طبيعة الأشياء و إن لا بد من إقرار حواجز لا يمكن تجاوزها ".
كما ان جميع أجهزة الدولة مقيدة بالقانون شانها في ذلك شان الفرد بما في ذلك السلطة القضائية و في هذا الإطار قال المفكر الكبير MONTESQUIEU  " ان قضاة الأمة ليسوا سوى الفم الذي يتفوه بعبارات القانون و لا تستطيع الكائنات الجامدة ان تعدل قوة أو صرامة القانون"
و من مظاهر دولة القانون مساواة الجميع أمامه و تطبيقه على كل المواطنين بدون أي تمييز أي على الضعيف و القوي و الفقير و الغني و ذوي الجاه و الأشخاص العاديين عملا بنظرية  علوية القانون على الجميع  التي أقرتها العديد من المواثيق و الإعلانات الدولية من بينها الإعلان الختامي للمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا عام 1993 و كذلك القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في اختتام مؤتمر القمة العالمي في شهر سبتمبر 2005 و تضمن "الترابط بين حقوق الإنسان و سيادة القانون و الديمقراطية"
و ظهر اتجاه حديث يدعو الى وضع ثلاثة شروط لدولة القانون أولها ان تكون ديمقراطية تعتمد سيادة الشعب يمارسها المواطنون مباشرة  او بواسطة نوابهم عن طريق انتخابات حرة ، ثانيها احترام الحقوق الفردية  و مراقبة مشروعية أعمالها عن طريق مؤسسات مستقلة أي الحد من نفوذ الدولة و ثالثها إقرار مبدأ الفصل بين السّلط الثلاث.

ان دولة القانون هي التي لا تصح فيها مقولة الكاتب الفرنسي HONORé DE BALZAC  المتشائمة اذ يرى إن" القوانين كأنسجة العنكبوت التي لا يمر منها إلا الذباب الصغير و يبقى الكبير " إذ انه خلافا لما جاء فيها فالمفروض أن كل الناس ملزمين باحترام القانون و عدم خرقه  و لا يعفي الكبار من الخضوع له.
أن دولة القانون بالامتثال له و بفرض احترامه على مواطنيها و خدمة مصالحهم و حماية حقوقهم تكتسب هيبة خاصة مما أدى إلى الحديث عن هيبة الدولة .
2/مفهوم  هيبة الدولة :
تعني الهيبة لغة حسب ابن منظور " الإجلال و المخافة " كما ان من معانيها أيضا الوقار و من الأمثلة السائرة "هب الناس يهابوك  أي وقّرهم  يوقّروك "
و تنطوي الهيبة أيضا على التعظيم
و يمكن أن نستخلص مما تقدم أن المقصود بهيبة الدولة احترامها و الاعتراف بسلطتها و مؤسساتها و الخضوع لها و هذا الاحترام للدولة مرده أنها ذات قانونية و هي قارة عملا بفكرة استمراريتها و غير قابلة للتغيير و انه يجب عدم الخلط بينها و بين الحكومة و تجسم إرادة عليا غير قابلة للمنازعة لكنها ملزمة باحترام القواعد القانونية التي سنتها و في مقدمتها الدستور على حد تعبير CARRé de MALBERG  
و مفهوم الهيبة لا يقتصر على مجرد الاحترام في معناه الأخلاقي و الحضاري بل ينطوي أيضا على شيء من الخوف من سلطة الدولة إذ أن من معانيها أيضا الخوف إذ يقول ابن سيده " تهيّبت الشيءَ و تهيّبني اذا خفته و خوّفني "
و أن هيبة الدولة بهذا المعنى مأتاها أنها كما قال عالم الاجتماع الألماني MAX WEBER   "تحتكر استعمال العنف البدني الشرعي " موضحا انه يمكن ان تكون سلطة الدولة مؤسسة على ثلاثة أصناف من الشرعية أولها التقاليد و ثانيها هيبة القائد السياسي "الكاريزما  " و ثالثها مشروعية القواعد التي تسنها الأجهزة المختصة في المجتمعات الحديثة "
و لعل العلامة ابن خلدون أشار في المقدمة إلى مظهر من مظاهر هيبة الدولة في معناه الخوف منها عندما تحدث عن "الوازع " بمعنى الكف عن ارتكاب الجرائم خوفا من السلطان إذ يقول " أن البشر  لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم و إذا  اجتمعوا دعت الحاجة  الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كل واحد منهم يده  إلى حاجاته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم  والعدوان فيقع  التنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدي إلى الهرج فاستحال بقاؤهم  فوضى واحتاجوا  من اجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم "
أن البشر في حاجة إلى وازع لجبرهم على احترام القوانين و تفادي الهمجية و الفوضى و اعتداءات بعضهم على البعض و احترام مؤسسات الدولة و لكن المفروض ان لا يكون مرد هيبة الدولة متأتيا من الخوف منها فقط اذ على كل مواطن ان يحترم الدولة لأنه جزء منها و ان روح المواطنة تقتضي ذلك ففي البلدان السكندينافية مثلا نلاحظ ان جميع المواطنين هناك يحترمون دولهم و مؤسساتها و يتحلون بالسلوك الحضاري و الانضباط بصفة تلقائية و بدون استعمال القوة او تسليط أي ضغط عليهم .



3/ التصرفات المنافية لدولة القانون و هيبتها :
من المؤسف بروز ظاهرة مزعجة و خطرة بعد الثورة تتمثل في تعمد العديد من المواطنين خرق القوانين و كأن الثورة ألغتها جميعها و كأن البلاد أصبحت بدون قانون و تكفي الإشارة إلى بعض التصرفات غير المقبولة نذكر منها السّياقة العشوائية للسيارات من طرف بعض السواق الذين لا يحترمون إشارات المرور   و لا يحترمون أولوية المرور بل أن بعضهم أصبح يسير بسيارته على الرصيف و السير في الاتجاه الممنوع و حتى الشتم و السب إلى غير ذلك من التصرفات غير المعقولة .
و هناك ظاهرة أخرى لا تقل خطورة تتمثل في الأخذ بالثأر و تعمد بعضهم الاقتصاص لأنفسهم  للانتقام ممن اعتدى عليهم و يستعملون العنف في ذلك عوض الالتجاء إلى القضاء و تناسوا أن عهد حرب البسوس و الأخذ بالثار قد ولّى .
كما ان من التصرفات المنافية لدولة القانون عدم الامتثال للأحكام القضائية و معارضة تنفيذها و الحال أنها تصدر باسم الشعب طبق الفصل 253 من مجلة المرافعات المدنية و التجارية و تنفذ  بالقوة العامة بأمر و إذن من رئيس الجمهورية  و لا شك ان عدم الإذعان للأحكام القضائية يؤدي إلى الفوضى و يجرد السلطة القضائية من كل نفوذ و تصبح تلك الأحكام حبرا على ورق فتضيع حقوق المحكوم لهم و تستمر وضعيات غير عادلة إذ تبقى الحقوق مغتصبة ما دامت الأحكام غير منفذة كما أن بعض المواطنين لا يمتثلون للقرارات الإدارية     و منها القاضية بتهديم البناءات الفوضوية على سبيل المثال.
على أن اخطر  آفة دولة القانون هو ضغط الشارع أو الرأي العام على سير القضاء عندما تترفع بعض الأصوات لمناصرة أطراف محل تتبع جزائي بالخصوص او بالمناداة بإدانتهم و تسليط  اشد العقوبات عليهم و الحال ان الأبحاث لم تكتمل بعد و لوحظ أن بعض الأشخاص و وسائل الإعلام تتحدث عن إدانة أو براءة أشخاص قبل صدور أحكام نهائية الأمر الذي يتعارض مع قرينة البراءة و هي من مقومات الحقوق الأساسية للإنسان بالإضافة إلى ظاهرة أخرى تتمثل في الكشف عن حقائق او حتى نشر أبحاث تتعلق بقضايا مازالت على بساط النشر أمام قضاة التحقيق و قبل انعقاد الجلسات العلنية أمام المحاكم و في ذلك خرق لمبدأ سرية التحقيق .
و لا شك أن من حق و واجب الإعلام الاهتمام بالقضايا الاجتماعية و خاصة الخطرة منها إلا انه يتعين تناولها في نطاق القانون و احترام كل الأطراف و عدم انتهاك حرمة الحياة الخاصة و تجنب الثلب و الادعاءات الباطلة.

كما انه تسلط بعض الضغوط لغاية إطلاق سراح موقوفين أو إيقاف أشخاص مازالوا في حالة سراح في حين أن الإيقاف أو السراح  لا يجب ان يخضع للنزوات الشخصية بل للقضاء الملزم بتطبيق القانون بكل تجرد و موضوعية دون التأثر بعوامل أخرى غير ما له أصل ثابت في أوراق الملف خاصة أن المشرع ضبط شروط و إجراءات الاحتفاظ و الإيقاف التحفظي و وصل الأمر ببعض الأشخاص إلى الهجوم على مراكز الأمن للإفراج بالقوة على الموقوفين و هي ظاهرة خطرة للغاية إذ تجسم خرقا صارخا للقانون ضرورة أن الاحتفاظ يخضع لرقابة القضاء و لنظام قانوني واضح.

كما أن القضاء مؤهل دون غيره للحكم بالبراءة أو الإدانة و هو الذي يقدر العقاب الذي يسلط على المذنبين في نطاق ما اقره المشرع و له طبعا أن يراعي وضعية كل متهم و إسعافه بظروف التخفيف إذا توفرت أو تشديد العقاب عند الاقتضاء فلنترك القضاء يقوم بوظيفته السامية و المفروض فيه ان يكون فعلا مستقلا و بعيدا عن كل الخلفيات السياسية لان السياسة تفسد العدالة و على السادة القضاة تحمل المسؤولية كاملة عند اداء مهامهم فلا سلطان عليه إلا القانون و راحة الضمير وتستوقفنا في هذا السياق مع ما قاله الرئيس الأسبق لمحكمة التعقيب الفرنسية السيد GUY CANIVET   الذي قال ان القضاة لا يمكنهم ان يقضوا إلا إذا كانت أيديهم مرتعشة  ils ne peuvent rendre justice que les mains tremblantes    و لا شك أن هذا الارتعاش يكون خوفا من الضمير و من جسامة المسؤولية قبل أي شيء آخر .
أن مثل تلك التصرفات المنافية للقانون و روح المواطنة و السلوك الحضاري تنطوي على استضعاف الدولة و خضد شوكتها و إذا ضعفت فعلا الدولة و أدركها الهون تسرب الخراب للعمران البشري و انقلبت المدنية إلى همجية لا تحمد عقباها إذ لا بد من  دولة قوية برشد حكمها ترعى مصالح مواطنيها و حقوقهم و في مقوماتها تحقيق الأمن و هو من أوكد واجباتها و مهامها إذ لا تنمية و لا حرية و لا ديمقراطية بدون امن فضلا على أن دور الدولة لا يجب أن يقتصر على ردع من يخرق القانون بل عليها بالخصوص أن تعالج الأسباب التي أدت إلى تلك التصرفات و أن تعمل على القضاء عليها و خاصة تلك التي تكتسي صبغة اجتماعية و تنطوي على مطالب مشروعة فالحلول الأمنية وحدها و استعمال القوة لا تزيل كل المشاكل و الاحتقان لان دولة القانون تختلف عما اصطلح على تسميته بالدولة الحارسة l’état- gendarme  كما انه من واجبات الدولة أيضا مقاومة التسيب و العمل على اقرار الانضباط في نطاق القانون و العدالة و مصلحة البلاد العليا و في هذا السياق يقول  PAUL VALERY  "إذا كانت الدولة قوية فهي تدوسنا و إذا كانت ضعيفة نهلك "

إن هيبة الدولة وحدها لا تكفي إذ لا بد أيضا من هيبة رجالاتها الذين يجب أن يتحلوا بالكفاءة و الحنكة و الإشعاع و قوة الشخصية القيادية دون ان يصل ذلك الى حد شخصنة السلطة و الحكم الفردي المؤدي إلى الاستبداد و الدكتاتورية فنحن في حاجة إلى قادة متشبعين بروح الديمقراطية و العدل و احترام حقوق الإنسان بمختلف أنواعها الفكرية و المادية منها و غيرها.
 و إذا كانت الدولة تستمد هيبتها من حسن سير مؤسساتها و مشروعية أعمالها و عدلها و خدمة شعبها  فان الله هو الذي حبا بعض المسؤولين السياسيين بالهيبة دون البعض الآخر فهي منة منه و الهيبة هي في آخر الأمر موهبة ألاهية أو لا تكون و ليست "الكاريزما" من نصيب كل الناس  و تلك هي مشيئة الله .




قراءة في مشروع مسودة التوطئة العامة للدستور



بعد انتظار طويل نسبيا و تشويق كبير،أعدت مشكورة لجنة التوطئة و المبادئ الأساسية صياغة مسودة أولى للتوطئة نشرتها الصحافة بتاريخ 5 جوان 2012 و كان سبق لنا ان نشرنا في 6 مارس 2012 مقالا حول مفهوم التوطئة و قيمتها القانونية أبرزنا فيه بالخصوص المواصفات التي يجب ان تتوفر في التوطئة.
 و حرصا منا على الإسهام في الحوار الوطني الدائر حول هذه المسالة المصيرية التي تهم مستقبل البلاد نظرا إلى المكانة المرموقة التي تتبوؤها التوطئة في الدستور فإننا سنبدي بعض الملاحظات بشان موضوع مسودة التوطئة و لا سيما من حيث المصطلحات الواردة فيها و الأسلوب الذي حررت فيه المبادئ الواردة فيها مع التقدم بجملة من المقترحات في خصوص كل هذه العناصر:

1/فيما يتعلق بالمصطلحات :  
لقد استعمل واضعو هذه المسودة بعض المصطلحات القابلة للنقاش لأنها تثير إشكاليات دقيقة حول المقصود بها نذكر منها عبارة "التفتح" التي لا تؤدي بمفردها معنى واضحا مادامت ليست مشفوعة ببيان ما يقع التفتح عليه إذ أن التفتح قد يكون على عدة أفكار أو مبادئ أو توجهات و نقترح أن يكون التفتح على الحداثة، كما وردت في المسودة جملة" نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي"، ولعل هذا النعت هو ترجمة للعبارة الفرنسية Participative و هو وصف يطلق عادة على نمط من الديمقراطية و لا على نظام سياسي، و الديمقراطية التشاركية التي نظّر لها الفيلسوف الألماني  JǛRGEN HABERMAS  و يعبر عنها أيضا بديمقراطية القرب  Démocratie de proximité و لها معنى خاص و دقيق، إذ ترمي أساسا إلى مساهمة السكان في اتخاذ القرارات التي تهم أحياءهم وهي ضرب من الديمقراطية "المحلية" وقد ظهر هذا التوجه بالخصوص في البرازيل خلال السبعينات، و في فرنسا بداية من التسعينات، و صدرت في شانه عدة نصوص قانونية و في اعتقادنا انه رفعا لكل التباس يحسن حذف عبارة تشاركي و الاقتصار على جملة:" بناء نظام جمهوري ديمقراطي" ضرورة أن عبارة الديمقراطية تنطوي بطبيعتها على المشاركة السياسية التي تعني مساهمة كافة المواطنين في الحياة السياسية للبلاد عن طريق الاقتراع العام.، ذلك هو مفهوم الديمقراطية. هذا بالإضافة إلى أن نعت "تشاركي" هو نسبة إلى تشارك و مثل هذه الصيغة حديثة انتشرت في الخطاب السياسي لكنها غير مستعملة في معاجم اللغة العربية القديمة على حد علمنا كلسان العرب و غيره .
و هناك مصطلح آخر في مسودة توطئة الدستور وهو حق "التنظّم " ، فهذه الجملة تثير أيضا بعض الإشكاليات اللغوية و الاصطلاحية ،من بينها لماذا اختار محررو المسودة عبارة"التنظّم" بالذات ؟ و الحال أنه كان من الأفضل استعمال عبارات أخرى أكثر وضوحا و أداء للمعنى المقصود، ذلك انه من الناحية اللغوية فان التنظّم هو نتيجة للتنظيم و الأمر يصبح منتظما بعد ان يقع تنظيمه إذ يقول ابن منظور"النظم التأليف،نظمه ينظمه نظما        و نظاما فانتظم و تنظم " و تطرح صيغة هذه الجملة عدة أسئلة في خصوص المقصود بالحق في التنظّم خاصة أن معاجم العلوم السياسية أو القانون الدستوري لم تتعرض إلى هذا الحق ثم ما هو ميدان التنظّم و في تقديرنا أنه يمكن تفادي هذه الإشكاليات بتعويض جملة "الحق في التنظيم" بعبارة الحق في إرساء نظام سياسي على أساس التعددية و الحياد الاداري........ إلى آخره "
و هناك جملة أخرى وردت في المسودة تثير أيضا إشكالية و هي "الانتخابات الحرة هي أساس التدافع السياسي "
إن عبارة التدافع، في نظرنا جاءت في غير محلها  لان هذه الكلمة مشتقة لغة من الدفع و هو يعني حسب ابن منظور: الإزالة بالقوة مضيفا قوله" تدافع القوم أي دفع بعضهم بعضا" و لا شك أن التدافع بهذا المعنى يوحي بالفوضى و استعمال القوة فيكون الفائز فيه للقوي ، و هذا يتنافى مع العمل السياسي الذي من المفروض أن ينبذ العنف و ينبني على الحوار و قبول الرأي المخالف في نطاق النظام و احترام القوانين فضلا على ان هذا المصطلح ليس متداولا بكثرة و غير مستعمل في لغة العلوم السياسية او القانون الدستوري و لا وجود لها في المعاجم المتعلقة بهذه المادة مما قد يثير اشكاليات حول مدلوله.       و بناء على ذلك فانه يستحسن حذف هذه العبارة و تعويضها بمصطلح آخر مثل التنافس السياسي او غيره من المفاهيم الأخرى الواضحة التي لا تثير إشكالا في فهمها .
وما دمنا في الملاحظات الاصطلاحية نشير إلى مسألة أخرى تتمثل في استعمال  عبارتي "الظلم  و الحيف" الواردتين في مشروع مسودة التوطئة. في حين أن لهما نفس المعنى و بالتالي يجب حذف أحداهما.

2/أسلوب تحرير المسودّة :
و في نطاق الملاحظات الشكلية أيضا نشير إلى تركيب بعض الجمل التي في حاجة إلى إعادة صياغتها نذكر منها جملة "المنتخبين باستحقاق ثورة الكرامة " إن استعمال حرف الجر "الباء" في هذه الجملة في غير محلة لان معاني هذا الحرف محصورة في اللغة العربية و منها الإلصاق و الاستعانة و التعددية و التعليل و المصاحبة و لا يوحي سياق الجملة بإحدى هذه المعاني مما يجعل مفهومها يكتنفه بعض الغموض اذ يطرح سؤال حول المقصود من جملة "باستحقاق ثورة الكرامة ....."
كما إن الجملة الأخيرة من مشروع التوطئة غير سليمة من حيث التركيب اذ جاء فيها "فان باسم الشعب نرسم على بركة الله هذا الدستور" اذ انه لا داعي إلى استهلال الجملة بكلمة "فإن " خاصة و إن أول الجملة في التوطئة تضمنت "نحن نواب الشعب التونسي " و نقترح تغيير تركيبة هذه الجملة لتصبح مثلا كما يلي : "نرسم باسم الشعب التونسي على بركة الله هذا الدستور"
و يلاحظ أيضا وجود تكرار بعض المبادئ المعلن عنها بدون موجب مثل "المخزون الحضاري و الكسب الحضاري و الانتماء الثقافي و الحضاري "و هي كلمات لها نفس المعنى تقريبا و بالتالي فانه لا حاجة إلى التكرار خاصة و أننا لسنا في نص أدبي بل  يتعلق الأمر بتوطئة دستور و هو يأتي في أعلى مراتب النصوص القانونية و المفروض انتقاء الكلمات و تفادي التكرار  و قديما قال الجاحظ"أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره"

3/المبادئ المنصوص عليها في مشروع التوطئة :
لقد تضمنت مسودة التوطئة جملة من المبادئ الأساسية مثل النظام الجمهوري و الحكومة المدنية و التداول السلمي على الحكم و التعددية و الانتخابات الحرة و استقلال القضاء و هي كلها مبادئ ضرورية لإرساء نظام ديمقراطي و دولة القانون الا ان هناك مبادئ أخرى لا تقل أهمية عنها غابت في مشروع التوطئة في حين انها ضرورية و لا يمكن إهمالها في مقدمتها حقوق الإنسان و الحريات الأساسية اذ انه و لئن سيقع التنصيص عليها بالتفصيل في احد أبواب نص الدستور فان ذلك لا يمنع من الإشارة إليها في التوطئة على غرار العديد من دساتير الدول العريقة في الديمقراطية مثل الدستور الفرنسي لسنة 1958 الذي جاء في مستهل توطئته "تعلق الشعب الفرنسي بحقوق الإنسان " و نجد نفس الإشارة في توطئة الدستور الاسباني لسنة 1978 . كما انه لم يقع التنصيص في المسودة على مبدأ  تفريق السلط و سيادة الشعب رغم انه وقع استعمال عبارة سلطة الشعب لكن هناك فرق بين المفهومين و لم ينص أيضا مشروع التوطئة على البعد الإفريقي و المتوسطي لتونس . و من ناحية أخرى ورد في المشروع "التعاون مع شعوب العالم و كان من الأفضل عدم التعميم و ذلك بحصر التعاون مع الشعوب المحبة للحرية و السلام   و العدل.إذ لا يمكن التعاون مع الشعوب التي لا تدين بهذه المبادئ السامية 
و لعل من أهم المستحدثات الهامة في مشروع التوطئة الإشارة فيها إلى القطع النهائي مع الفساد الذي يعني  لغة، كما هو معلوم، نقيض الإصلاح و قال تعالى: "و يسعون في الأرض فسادا "
و الفساد ليس ظاهرة حديثة بل قديمة و قد أشار إليها الفيلسوف أرسطو في كتابه"السياسة " و هو يرى أن الفساد يتأتى عندما تصبح الحكومة لا تتصرف طبقا للقانون و المصلحة العامة بل تعمل على خدمة مصلحتها الخاصة. أما المفكر الفرنسي مونتسكيو فهو يقسم الفساد إلى نوعين أولهما عندما لا يحترم الشعب القوانين و ثانيهما عندما تفسد القوانين الشعب و هناك مفهوم سياسي للفساد يتمثل في إقدام ماسكي السلطة الإدارية و السياسية على استعمال نفوذهم و جاههم لكسب المال ، ولا شك أن ظاهرة الفساد منتشرة في العديد من الأنظمة الديكتانورية و حتى الديمقراطية و ان التنصيص في التوطئة على القطع النهائي مع الفساد يجعل لمقاومة هذه الظاهرة الخطيرة مرتبة دستورية و هذا عنصر ايجابي من شانه ان يضع حدا للفساد أو على الأقل يحد من انتشاره و في ذلك حفاظ على المال العام و خدمة لمصلحة المجموعة الوطنية .
و مهما يكن من أمر ، و بقطع النظر عن هذه الملاحظات فان واضعي مسودة التوطئة بذلوا مجهودا  واضحا في صياغتها و نرجو ان يوفقوا إلى إعداد نص نهائي يستجيب للمواصفات المطلوبة في وضع التوطئة و الدستور من حيث المبنى و المعنى و ذلك باستعمال مصطلحات واضحة و متداولة في الخطاب السياسي و في معاجم القانون الدستوري حتى لا تثار إشكاليات في معانيها نظرا لكون التوطئة هي جزء لا يتجزأ من الدستور و ان في صورة إحداث محكمة دستورية او مجلس لمراقبة دستورية القوانين فانه يقع الرجوع أيضا إلى التوطئة بالإضافة إلى فصول نص الدستور الذي يجب ان يكون متماشيا مع تطلعات الشعب خدمة للمصلحة العليا للبلاد التي يجب ان تكون المعيار الوحيد المعتمد في وضع القواعد المنظمة للسلطة في علاقتها مع المواطنين حماية أيضا لحقوقهم و حرياتهم بدون حسابات سياسية أخرى .