jeudi 7 avril 2016

الحبيب بورقيبة: زعامةٌ فذّةٌ، وجهاد كبير في سبيل تونس ورُقيّ شعبها



                                                                   بقلم الدكتور عبد الله الاحمدي

في مثل هذا اليوم من سنة 2000 فقدت تونس أحد أبنائها البَرَرَة ورِجَالاتِها الكبار الزّعيم الحبيب بورقيبة.
 إنّ الحديث عن مآثر هذا القائد العظيم يطول نظرا الى ما تَميّز به من خصال فريدة، فقد وَهَبَهُ الله مؤهّلات وقدرات عديدة كان لها ابعد الأثر في نحت شخصيته على مدى اطوار حياته منها قوّة الشّخصية والكاريزما والذّكاء الوقّاد والفكر الثّاقب والشّجاعة النّادرة والحنكة السياسيّة الفائقة سواءٌ في فترة الكِفَاح التحريري ضد الاستعمار او في مرحلة بناء الدولة العصرية ويلمس هذه المميزات كل من اقترب منه او التقى به وقد كنت من اللذين حَظَوْ بمقابلته في مكتبه بقصر الجمهورية بقرطاج ويسكنني الى اليوم شعور فيّاض بالانبهار بملامح شخصيّته وقوّة ذاكرته وإِلْمَامه الواسع بالقانون.
 لقد كرّس بورقيبة أغلى سنوات العمر في خدمة الوطن والنهوض بشعبه من أجل ذلك قضّى أَوْقاتًا طويلة في غَيَاهِب السّجون والمنافي داخل البلاد وخارجها. ولم يَنَلْ ذلك من عزيمته وإصْرَارِه على مواصلة مقاومة الإستعمار الفرنسي، وأظْهَرَ مقدرة فائقة في وضع إستراتيجيّة واضحة المعالم والرُؤى تقوم على سياسة المراحل التّي أكّدت الأيّام جدواها. وقد إستغل ثقافته الواسعة التّي إكتسبها خلال دراسته في تونس وفي فرنسا أثناء فترة الكفاح متبنيا مبادئ عصر الأنوار وقيمه، وأظهر بورقيبة مهارة لا توصف في التّعامل مع الأحداث وقد ساعده على النّجاح بُعْد نظر وحسن قراءته للتّاريخ وإستخلاص العِبَر منه وتَمَتُّعِه بحدس سياسي متفرّد مكّنه أحيانا من توقع أحداث قبل حصولها من ذلك أنّه كان تَنَبَأ بانهزام قوّات المحور في مواجهته مع الحلفاء ودعا وهو رهين الاعتقال بإحدى السّجون الفرنسيّة الرّاجعة بالنظر الى المحور إلى عدم مُؤَازَرَته مُنَاصِرا بذلك قوّات التحالف قبل أن تنتصر في الحرب العالميّة الثّانية ويصدق في شأنه قول أبي الطيّب المتنبي الذّي كان بورقيبة معجبا بشعره:
                              "ذَكِيٌّ تَظنِيهِ طَليعَةٌ عَيْنِه
                                                               يَرَى قَلْبُهُ فِي يَوْمِهِ مَا تَرَى غَدا"
وكان الرئيس الراحل يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع نظرًا الى ما جُبِلَ عليه من فصاحة قلّ نظيرها فقد كان خَطِيبا مِصْقَعاً ذَلِيقًا، وظهرت هذه الموهبة في مناسبات فارقة نذكر منها مؤتمر قصر هلال في 2 مارس 1934 والخطاب الذّي ألقاه في مؤتمر الحزب الحر الدستوري بصفاقس في نوفمبر 1955 وقد وصفه الأستاذ الشّاذلي القليبي بأنه "أقوى الخطب في حياته السياسيّة".
ولا نَنْسَى أيضا خطاب 25 جويلية 1957 الذّي ألقاه أمام المجلس القومي التأسيسي والذّي تُوِّج بالإعلان عن الجمهورية وأكد فيه آنذاك ما يتمتّع به من مقومات الزَّعَامَة الحقيقية.
 إثر الإستقلال خاض الحبيب بورقيبة معركة أخرى لا تَقِلّ أهمية عن النضال ضد الإستعمار وقد سماّها "معركة التخلّف" بكلّ مَظَاهِره والعمل على تنمية البلاد وإلْتِحَاقها "بِرَكْب الدُول المتقدّمة" كما اطلق عليها أيضا مصطلح الجهاد الأكبر ويجدر التّذكير بالأوضاع المُزْرِيَة التّي كانت عليها تونس عند حصولها على الاستقلال، فقد كانت الأُمِيّة سائدة في جُلّ الأوساط إلاّ نخبة قليلة محظوظة جدّا تمكنت من أخذ نصيبها من الثقافة وكان الفقر منتشرا والامراض متفشية هنا وهناك وجل الطبقات الشعبية يعاني من الخصاصة والمجاعة فواجهت الدّولة الفتيّة برئاسة بورقيبة هذه الصعوبات والحالات القاسية واستطاع رفع التّحديات.
كما اضطلع قائد تونس الحديث بدَوْر كبير في هذه المعركة الجديدة، ولا يسمح المقام بإستعراض مختلف الإنجازات وهي معروفة، وتكفي الاشارة الى مراكز محو الأُميّة وبناء المدارس في شتّى أنحاء الجمهوريّة وخاصّة بالقرى والمداشر والارياف وحتّى بالأماكن النَائِيَة وبقمم الجبال التي يعسر الوصول إليها. فتكوّنت بفضل هذه السياسة المتبصرة إطارات وطنيّة ذات كفاءات عالية تضاهي إطارات البلدان الراقية وقد كان لها الدور الأساسي في بناء أركان الدّولة التونسيّة العصرية وتركيز مؤسساتها كما بُعِثَتْ المستوصفات في أرجاء البلاد.
وكان بورقيبة إلى جانب تسيير شؤون الدّولة مُهْتَمًا بجوانب أخرى من حياة المواطنين اذ يُخَصِّصُ "خطابه الأسبوعي" آنذاك لتوعية الشعب من خلال الحديث عن مواضيع إجتماعيّة تهم المواطنين مباشرة في حياتهم اليومية وكان بمثابة المُعَلِّم للامة التونسية يحدّثها عن ضرورة "تحسين الهندام" والنظافة وتهذيب لغة التخاطب وتنظيم النسل الى غير ذلك من المواضيع الاجتماعية وكان يستعمل في خطبه أسلوبا جذابا يشدّ الانتباه وبلغة تفهمها العامة فأصبحت خُطبه ذات شأن وعميقة التأثير في كل الأوساط بل كانت من قبيل الامتاع.
ولا ننسى أيضا الدور الرّيادي للرئيس بورقيبة في غرس روح الحداثة بكل جوانبها واقدامه على تحرير المرأة من القيود التّي كانت تكبلها وتمسّ بكرامتها وتحقيق المساواة بينها وبين الرّجل فكانت مجلة الأحوال الشخصية علامة مضيئة في العالم العربي والإسلامي، وما كان لهذه المجلة أن تصدر في تلك الظروف الخاصّة لولا شجاعة بورقيبة وما كان يتحلى به من جرأة في أخذ المبادرات والمواقف.
ومما يحز في النفوس ويدعو الى الاستغراب والامتعاض أن نستمع اليوم الى أصوات للبعض ممن لا يزالون ينتقدون بورقيبة متناسين بذلك ما قدّمه في سبيل تونس من تضحيات جسام وما حققه لشعبها من إنجازات وفيرة طالت كل الميادين ساهمت في تقدم البلاد وادخالها في نهج الحداثة.
وقد إنتقد بعضهم أخيرا مبادرة ارجاع النصب التذكاري للزعيم بورقيبة الى مكانه الأصلي بقلب العاصمة كما عارض آخرون حتّى إحياء ذكرى وفاة الزعيم الرّاحل.
وفي تقديرنا أن هذا الموقف هو ضرب من الجحود إزاء رجل جعل من تونس قضيته الأولى والوحيدة في حياته، فلم يستغل السلطة أبدا لقضاء مآربه الشخصيّة أو لكسب المال اذ كان نظيف اليدين ولم يَبْنِ قصورا ولم يمتلك حتى محلا للسكنى وتلك وضعية قَلَّمَا نجد مثلها في العالم ولم تكن السلطة لديه مطيّة الى الثراء وقد عزّت مثل هذه الشمائل اليوم ونادرا ما يتحلى بها رجال السياسة في الوقت الحاضر الذي غدت فيه السلطة وسيلة للثراء وصار المال طريقا الى السلطة كما ظهر المال السياسي وبقطع النظر عن هذه الخصال التي ميزت رئيس الدولة التونسية آنذاك فان غالبية شعوب العالم تحترم زُعَمَائِها وتحافظ على ذكراهم.
وفي اعتقادنا انه من باب الوفاء لهذا الرجل مزيد تعريف الأجيال الصاعدة بنضاله المستميت من أجل استقلال البلاد والمكاسب الجمّة التي تحققت في عهده وأن ذلك ليس بكثير على رجل نذر حياته لخدمة بلاده سواء في مرحلة الكفاح الوطني او في معركة التنمية والنهوض الاجتماعي.
لقد عاد اسم بورقيبة بقوة ابّان ثورة 14 جانفي ورجع اليه بريقه بعد محاولات طمسه وان من ابسط مبادئ العرفان بالجميل لهذا الرجل إيلاؤه ما يستحقه من تبجيل وتكريم واللذين مازالوا ينتقدونه بل ذهب البعض حتى الى ذمه وشتمه وهو في ديار الخلد لم يقوموا ولو بمقدار ذرّة من الأعمال والتّضْحِيات مثلما بذله من جهود سخيّة من أجل تونس، ولا نعتقد أنّ "وطنيّتهم" للبلاد أكثر وأقوى من وطنيّة الزّعيم الرّاحل التي لا يشكّ أي عاقل نزيه فيها، ولم تكن هذه الفئة من الأشخاص لتذم الرجل " لو لم يكن منهم أَجَلَّ وأعْضَمَا ".
والمتابع للمشهد السياسي الوطني اليوم نلاحظ بروز ظاهرة الانتساب إلى ما أصبح يعرف "بالإرث البورقيبي" ويمكن تقسيم هذا التوجه الى صنفين:
أولهما مجموعة من الأشخاص الصادقين المتشبعين فعلا بالفكر البورقيبي يوجد بينهم من عمل تحت قيادته وظلوا أوفياء له ومتعلقين بمبادئه على الدوام، بالإضافة الى العديد من المواطنين الاخرين اللذين آمنوا بالفكر البورقيبي.
اما الصنف الثاني فيُمَثِلُ فئة من السياسيين الجدد اللذين كانوا بالأمس القريب يشككون في نضالات بورقيبة ويحاولون اليوم الركوب على الشرعية وضمان الحضور في المشهد السياسي وكسب الأنصار وجلب " الحرفاء السياسيين " بشتى الطرق والوسائل وذلك من خلال استغلال اسم بورقية وتوظيف ارثه السياسي والحضاري وكَأنّ البورقيبية غدت "علامة تروّجُ في سوق السياسة" ولا نخال ان المواطن التونسي الواعي والمتبصّر تنطلي عليه مثل هذه الأساليب التي لا ينخدع بها الاّ المغفلون.
ولَعَلَّ أفضل ما نختم به هذه الخواطر التي أوحت لنا بها الذكرى السادسة عشر لوفاة الحبيب بورقيبة تلك الآية الكريمة التي كثيرا ما كان يردّدها في العديد من خطبه: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكَثُ فِي الأَرْضِ" صدق الله العظيم وتغمّد الزعيم الراحل برحمته الواسعة. 


         
                

lundi 29 février 2016

حرية التعبير: بين الضوابط القانونية والأخلاقية ومخاطر الانفلات


Description: C:\Users\lenovo\Desktop\Mtre ahmadi\DSC_4597.jpg

حرية التعبير:
بين الضوابط القانونية والأخلاقية ومخاطر الانفلات
                                                           بقلم الأستاذ عبد الله الاحمدي

تعدّ حرية التعبير من الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الإنسان، وقد أجمع على ذلك شُرّاح القانون. كما كرّست نصوص كثيرة هذا الحق، وقد جاء في القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتاريخ 7 ديسمبر 1976 "إن حريّة التعبير من أهم أسس المجتمع الديمقراطي وهي من شروط تقدم وإزدهار كل فرد".
وأكد المجلس الدستوري الفرنسي في قراره المؤرخ في 10 أكتوبر 1984 أن "حرية إيصال الآراء والأفكار أساسية وثمينة، وأن مُمارستها هي من بين الضمانات الأساسية لاحترام بقية الحقوق والحريات والسيادة الوطنية".
وأضاف المجلس نفسه في قرار آخر صادر في 29 جويلية 1994 "إن حرية التعبير عن الآراء والأفكار تقتضي حق كل فرد في اختيار الألفاظ التي يراها كفيلة بالتعبير عن تفكيره".
إن هذه القرارات القضائية تؤكد أهمية حرية التعبير التي كرّستها بالخصوص ما اصطلح على تسميته "بالشرعة الدُولية لحقوق الانسان" ومن ذلك أن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقرّت لكل شخص "حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ".
وتضمّنت هذا الحق ذاته المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه تونس. وهو أصبح أعلى من القوانين طبق الفصل 21 من الدستور الجديد.
ولا جدال في أنّ أهم نص أقرّ حريّة التعبير هو الفصل 31 من دستور 27 جانفي 2014 الذي تضمن أن " حريّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة".
وغنِي عن البيان أنّ الدّستور يعلُو كُلّ النصوص الأخرى، وعلى المشرّع عند سنّ القوانين أن يحترمه وذلك بعدم المصادقة على أيّ قانون مخالف للدستور، وتتولى المحكمة الدستورية مراقبة دستورية القوانين.
تجاوز الحدود عند ممارسة حرية التعبير
وفي تقديرنا أنّ من أهم مكاسب ثورة 14 جانفي 2011 حريّة التعبير، غير أن المتتبع لوسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة يلاحظ أن هناك أحيانا انفلاتا إعلاميا كبيرا قد يكون مبنيا على سوء فهم حرية التعبير والتّعسف في استعمالها بطريقة مخالفة لأخلاقيات حرية التعبير والإعلام وخرق للقانون والإساءة للغير، إلى درجة أنّ بعض الملفات التلفزية انقلبت المناقشات والحوارات فيها الى اللّجْلجةِ وضرْب من الغوْغائية والمشاجرة والتّلاسن وحتى استعمال الكلام البذيء المخل بالحياء وإلى تبادل الشتم والسّب والقذف في مفهومه القانوني الجزائي وأحيانا يكاد يؤول الامر إلى تبادل العنف أو التهديد به وتشابك الأصابع. ومما يحزّ في النفوس، أن تصدر مثل هذه التصرفات المخجلة عن بعض المنتمين إلى ما يسمّي "بالطبقة المثقفة" ولا خير في ثقافة بدون أخلاق وفي هذا السياق يقول الزعيم المصري سعد زغلول " نحن لسنا محتاجين لكثير من العلم ولكننا محتاجون لكثير من الأخلاق".
ونحن نقول رُبّ أُمِيّ متخلّق أفضل من مثقّف عديم الأخلاق.
كما ان بعض تلك التصرفات تصدر عمّن يصفون أنفسهم بالحقوقيين وهو مفهوم غير واضح وقد كثر هذا الصنف من الأشخاص ولا نعلم من منحهم هذه الصفة وعلى أي أساس؟
وهناك ظاهرة تتمثل في أن أَرْهُطًا من الأشخاص ينتقلون من منبر الى آخر ويحظون بإستضافات متكررة من لدن بعض وسائل الاعلام في حين أنهم لا يحترمون أدبيات الحوار وضوابطه القانونية والأخلاقية، وجُبِلُوا على التّشنّج والإستفزاز وإفتعال "الفرجة" والحال أنه من المفروض الأخذ بعين الاعتبار لهذه المعطيات عند إختيار الضيوف، ومن حسن الحظ ان هذا النوع من الأشخاص قليل.    
ضوابط حريّة التعبير
وإذا كان التحمس للأفكار والدفاع عنها أثناء المناقشات أمرا عاديّا، وأنّ من حق كل مواطن أو مسؤول سياسي أو جمعياتي أن يعبّر عن أفكاره، فإنه لا بدّ من احترام بعض الضوابط المستمدة من أدبيات الحوار وأخلاقيات الإعلام ومن وجوب احترام القوانين الجاري بها العمل، والتي تحمي المجتمع والنظام العام وتحفظ حرمة الحياة الخاصة والآداب العامة.
ويجدر التذكير هنا بفصل هام في الدستور، يبدو أن العديد من الأطراف تناسوه أو أنهم غير واعين بمقاصده وأبعاده ونعني الفصل 49 الذي ينص على أنه " يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها، ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية، وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العامة والآداب العامة وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها ... وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أيّ انتهاك".
ونجد المبدأ نفسه بالفصل الأول من المرسوم عدد 115 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الذي ينص على أنه "لا يمكن التقيد من حرية التعبير إلا بمقتضى نص تشريعي".
ويؤخذ من هذين النصين أن الحقوق والحريات (ومنها حرية التعبير والإعلام طبعا) ليست مطلقة، بل تخضع لضوابط جعلت لعدم تجاوز حدود لا تقل أهمية عن حرية التعبير أو الإعلام، منها حماية حقوق الغير والأمن العام أو الآداب العامة، ومنها بالخصوص الأخلاق. فالحق في حرية التعبير لا يخوّل المسّ بحقوق الآخرين وشتمهم وهتك أعراضهم أو النيل من حرمتهم.
وتستوقفنا في هذا السياق، ما نصّت عليه المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وقد جاء فيها: "الحق في حرية التعبير يتضمن واجبات ومسؤوليات وإخضاعه لشكليات إجرائية وشروط وقيود وعقوبات محدودة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي لصالح الأمن القومي وسلامة الأراضي وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة وحماية الصحة والآداب وإحترام الآخرين ومنع إفشاء الأسرار أو تدعيم السلطة أو حياد القضاء".
ويُستشف من هذه النصوص القانونية أن حرية التعبير لها حدود، بل تخضع لضوابط وقيود تقتضيها عدة اعتبارات، منها المصلحة العامة والأمن القومي وحماية المجتمع والمصلحة العليا للبلاد وحماية ما يعرف بالرابطة الاجتماعية.
كما يرى جلّ شرّاح القانون أنّ أساس تسليط عقوبات على مرتكبي ما سمّي "بجرائم الصحافة" هو ردع وشكل من أشكال التعسف في حريّة التّعبير وهي قيد لها.      
ويبدو جليّا أنّ هناك نصوصا قانونية عديدة تعاقب بعض التجاوزات المؤسفة عند ممارسة الحق في التعبير، مثل جرائم هتك شرف الإنسان وعرضه مثل القذف والشتم المنصوص عليها بالمجلة الجزائية.
ومعلوم أنّ المرسوم عدد 115 تضمّن أحكاما جزائيّة تتعلّق بالجرائم ضد الأشخاص المرتكبة بواسطة "وسيلة من وسائل الإعلام السمعي والبصري أو الإلكتروني".
ومن بين تلك الجرائم، الثلب الذي ينال من شرف أو إعتبار شخص (الفصل 56) وكذلك الشتم المتمثل في " كل عبارة تنال من الكرامة أو لفظة احتقار أو سب (الفصل 57).
إلاّ أنه رغم هذه النصوص الزجرية الواضحة، مازلنا نلاحظ العديد من مظاهر الزيغ والانزلاقات في جانب من الحوارات الإذاعية والملفات التلفزية وحتى في التصريحات أو الكتابات ببعض الصحف التي تتجاوز الضوابط القانونية المذكورة، وتتضمّن النيل من كرامة واعتبار الأشخاص.
وهناك جانب آخر لعله أكثر وقعا وخطورة، ويتمثل في أن أشخاصا يعمدون إلى خرق القانون والكشف عن اسرار مهنية. في حين أن القانون يحجّر إفشاءها اذ أن من أوكد المؤتمنين عليها عدم الكشف عنها. ومما يزيد الأمر إِسْتِفْحالاً أنّ جانبا من تلك الأسرار قد يمسّ من حقوق الآخرين، وحتى النظام العام في مفهومه الواسع.
ويذكر أنّ الفصل 109 من المجلة الجزائية يسلط عقابا بالسجن مدة عام على الموظف العمومي أو شبهه الذي ينشر كتبًا أُؤتمن عليه أو حصل له العلم به بسبب وظيفته أو يطلع عليه غيره.
وهناك بالخصوص أسرار تهمّ قضايا عدلية جارية وخاصة الجزائية منها، والحال أن القانون يمنع ذلك. فالفصل 61 من المرسوم 115 "يحجّر نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية". كما أن الفصل 60 من المرسوم ذاته يسلط أيضا عقابا بالسجن من عام إلى ثلاثة أعوام مع خطية مالية على "كلّ من يتولى نقل معلومات عن جرائم الاغتصاب أو التحرش الجنسي ضد القصر بأي وسيلة كانت، متعمّدا ذكر اسم الضحية أو تسريب أية معلومات قد تسمح بالتعرف عليها ".
ومن ناحية أخرى، فإن الفصل 31 من قانون 7 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال ينصّ على معاقبة "كلّ من يتعمّد داخل الجمهورية وخارجها علنا وبصفة صريحة الإشادة أو التمجيد بأيّ وسيلة كانت بجريمة إرهابية او بمرتكبها ... "
وفي صورة ارتكاب مثل هذه الفعلة التي وصفها المشرّع بكونها (جريمة إرهابية) فإنه يقع تطبيق هذا القانون دون غيره لأنه قانون خاص، وهو أولى في التطبيق من القانون العام طبق ما درج عليه فقه القضاء. كما أنّ الفصل 54 من المجلة الجزائيّة ينص على أنه "إذا تكون من الفعل الواحد عدة جرائم، فالعقاب المقرّر للجريمة التي تستوجب أكبر عقاب هو الذي يقع الحكم به وحده".
ونلاحظ أيضا أنّ بعض الموظفين والمسؤولين لا يحترمون واجب التحفظ المحمول على كاهلهم. بحُكْم طبيعة وظائفهم، فلا يتردّدون في الدخول في مناقشات خلال البرامج الحوارية في الإذاعة أو الملفات التلفزية أو التصريحات الصحفية المكتوبة، ويبدون رأيهم في مواضيع لها علاقة بوظائفهم، والحال أنهم ملزمون بواجب التحفظ الذي يقتضي منهم عدم إبداء الرأي علنا في تلك المواضيع والتي تقتضي القوانين وأخلاقيات وظائفهم عدم الكشف عنها إلا في نطاق إنجاز المهام المنوطة بعهدتهم. 
وثمّة ظاهرة أخرى لا يمكن التغاضي عنها وتتمثل في أنّ بعض "المجموعات المهنية" تعمد أحيانا إلى تسليط ضغوط على السلط العمومية، وخاصة السلطة القضائية للدفاع عن بعض الأشخاص المنتمين لِأسْلاك معيّنة في صورة احالتهم على القضاء، ويعمد بعضهم إلى محاولة التأثير على مجرى القضايا بدعوى حريّة التعبير، والحال أنه لا بدّ من إحترام السلطة القضائيّة وإستقلاليتها وعدم التّدخل في شؤونها وأنّ المشرّع أقرّ وسائل للطعن في الأحكام القضائية في نطاق القانون.
وفي هذا السياق، نلاحظ أن الفصل 434 من المجلة الجزائية الفرنسية مثلا يحجّر منع نشر تعاليق على قرارات قضائية قبل صدور حكم قضائي نهائي بنيّة تسليط ضغط للتأثير على الشهود أو قرارات قاضي التحقيق أو المحكمة.

نعم للرقابة القانونيّة على حريّة التعبير، ولا للرقابة السياسيّة
يقول الكاتب الفرنسي Gustave FLAUBERT "إنّ الرقابة مهما كانت أسوأ من القتل وإن الإعتداء على الفكر هو جريمة".
ولا مجال إطلاقا للتضييق من حريّة التعبير إلاّ في حدود ما أقرّه القانون لتفادي أي إفراط في السلطة أو النيل من هذه الحريّة لأسباب واهية وغير جديّة وخاصّة سياسيّة.
ومن هذا المنظور فإن حريّة التعبير لها مكانة خاصة في مشهد الحريات، فهي حق موضوعي ومبدأ عام يتوقف عليه وجود الديمقراطية ومجموع الحقوق الأساسية مثلما قال الأستاذ Xavier BIOY ، كما أنه لا يجوز للدولة الضغط على الصحافة في كل الحالات بإسم النظام العام، فمن حق كل مواطن وكذلك من حق الصحافة انتقاد عمل المؤسسات العمومية، ومن حقها أيضا التنديد بالتجاوزات التي تحصل والكشف عنها، لكن كل ذلك مع احترام الضوابط القانونية، شريطة التأكد من صحة المعلومات، اذ لا بدّ أيضا من احترام قرينة البراءة.

التسامح وحرية التعبير
ينبغي أن يكون التّسامح، وهو من القيم التي نص عليها الفصل 6 من الدستور، جوهر حرية التعبير، وذلك باحترام رأي الآخرين وتمكينهم من التعبير عنه.
ووفق هذه الرؤية، نادى الزعيم الهندي غاندي بما أسماه "التسامح المتبادل" قائلا "إننا لا نفكر جميعا بنفس الطريقة وإننا لا نرى إلا جانبا من الحقيقة ومن زوايا مختلفة ".
إنّ من آداب الحوار الاستماع للآخر وعدم الإساءة إليه إذا كانت آراؤه مخالفة لآرائنا، وإن حريّة التّعبير لا تعني التّهجم على الآخرين الذين يخالفون الرأي. ولعلّ أفضل ما نتوّج به هذا العرض إستحضار المقولة المعروفة التي أطلقها المفكر الفرنسي Voltaire وهو أحد روّاد عصر الأنوار "إني مستعدّ إلى حدّ الموت لمقاومة أفكارك ولكنّي أعمل حتّى الموت لتمكينك من التّعبير عنها".