lundi 6 avril 2015

الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة: عبقرية زعيم فـذ ّ



في الذكرى الخامسة عشرة لوفاة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، تراودنا جملة من الأفكار وتسكننا شحنة من المشاعر حول شخصية هذا الرجل العظيم الذي كرّس حياته لخدمة تونس، فكافح السنوات العديدة من أجل تحريرها من الهيمنة الاستعمارية، وقضى الفترات الطويلة في غياهب السجون داخل البلاد وخارجها، وعانى من وحشة الغربة وقساوة المنفى، وذاق شتى ضروب العسف والحرمان.
وبعد إحراز تونس على استقلالها وتولّيه السلطة، عمل بدون هوادة بحنكة سياسية لافتة على إرساء لبنات الدولة الفتيّة ودعم مقوماتها على أسس ثابتة، فركّز مؤسساتها الأمنيّة والعسكريّة والإداريّة والقضائيّة كان له الفضل في وضع دستور جديد، مستمد من دساتير بعض الدول العريقة في الديمقراطية وتضمن المبادئ التي ترتكز عليها، مثل الفصل بين السلطات وحقوق الإنسان واستقلال القضاء، كما أطلق بورقيبة ثورة تشريعية عارمة في مختلف الميادين، وخاصة مجلة الأحوال الشخصيّة ( وهي قانون رائد في العالم العربي والإسلامي ) إذ حررّت المرأة من القيود التي كانت تكبّلها ومنحتها حقوقا في ذلك الوقت لم تتمتع بها النساء حتى في بعض الدول الغربية المتقدمة، ولا شك أنّ هذه المجلة لم تكن لتصدر لولا شجاعة الحبيب بورقيبة وتشبّعه بقيم الحداثة وإيمانه بالتطور. وأٌصدرت في عهده عدة مجلات قانونية بها أصبحت لتونس منظومة قانونية متكاملة.
ويتذكر جيل الستينيات والسبعينيات الخطب التي كان يلقيها الرئيس الراحل على أمواج الإذاعة أو في الاجتماعات العامة، والتي كانت بمثابة الدروس في شتّى مجالات الحياة، فكان يتحدث عن معركة التخلف ويثير مواضيع هي من صميم ظواهر المجتمع التونسي آنذاك، والهندام والسلوك الحضاري والنظافة وغير ذلك من المواضيع التي تهمّ حياة المواطن اليومية. والجميع يتذكر "توجيهات الرئيس" التي كانت تبث يوميا في الإذاعة الوطنية وعلى شاشة التلفزة التونسية وكانت تشد انتباه التونسيين والتونسيات.
وعلى الصعيد الخارجي، كان لبورقيبة دور رائد في إشعاع تونس والتعريف بها في الخارج، حتى اقترن اسمه بها وغدت بلادنا تحظى باحترام خاص تجلّى في سائر المحافل الدولية. ولا نزال نذكر الحفاوة والتبجيل الكبيرين اللذين خصّ بهما الرئيس الأمريكي جون كينيدي بورقيبة بمناسبة زيارته التاريخية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1961 .
وقد اتسمت السياسة الخارجية التي انتهجها باني تونس الحديثة بالحكمة والاعتدال والواقعية والصراحة والشجاعة وجعل مصلحة تونس فوق كل اعتبار.
وكان الرجل يتمتع بحدس سياسي قوي وبعد نظر، ينطبق عليه قول الشاعر أبي الطيب المتنبي، (والذي كان الرئيس معجبا به) حين قال:
     " ذكي تظنيه طليعة عينه يرى                             قلبه في يومه ما ترى غدا "  
ولا ننسى الخطاب التاريخي الذي ألقاه بورقيبة في اريحا يوم 03 مارس 1965 متوجها به إلى اللاجئين الفلسطينيين. ومما قاله آنذاك: " وجب أن ننتهج إلى جانب الكفاح المسلح طرقا أخرى تعتمد الحكمة والدهاء بما في ذلك من كرّ وفر وترهيب وترغيب ... إن سياسة المطالبة بالكل أو لا شيء التي قادتنا إلى المأزق الذي نحن فيه وجلبت لنا الهزائم التي مازلنا نجرّ ذيولها حتى اليوم ".
نستحضر أيضا الخطاب الذي ألقاه الرئيس بورقيبة بقاعة البلمريوم يوم 16/12/1972 بحضور معمر القذافي وكان درسا بليغا في التحليل السياسي العميق والواقعية والتاريخ.
لقد حبا الله الزعيم الراحل بخصال حميدة ومؤهلات ذاتية متميزة فقد كان يتمتع بذكاء نادر وقوة الشخصية، وكان ذا ثقافة واسعة ومتنوعة فهو مغرم بالأدب والموسيقى والمسرح واستوعب الثقافتين العربية والفرنسية، كما قال المفكر الأستاذ الأديب الشاذلي القليبي في كتابه القيّم وبأسلوب جذاب " أضواء من الذاكرة : الحبيب بورقيبة ".
وكان الزعيم ملمّا بالتاريخ، يطوّع ثقافته التاريخية في خطبه، وكثيرا ما يستشهد ببعض الأحداث التاريخية وبالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية الشريفة، ومن بين الآيات التي كان كثيرا ما يردّدها " إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (صدق الله العظيم).
وكان الحبيب بورقيبة فصيحا وبليغا يشدّ الانتباه عندما يخطب. ويستعمل حركات مدروسة أثناء الكلام، يعرف متى يبتسم أو يديم النظر مع الصمت، وكان يبكي أحيانا أو تترقرق عيناه بالدموع وسرعان ما يسترجع أنفاسه وكأنّ شيئا لم يكن. ولا غرو في ذلك فالرجل كان يتقن فن المسرح ومولعا به منذ صباه.
 وكانت خطب الرئيس إمتاعا ومؤانسة تحمل فوائد جمّة، ونتذكر المحاضرات التي ألقاها على منبر طلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار في أوائل السبعينيات والتي تابعها التونسيون بشغف وانتظام.
ومن أهم ما كان يتميّز به بورقيبة "الكاريزما" أو الوهرة أو الهيبة التي حباه الله بها، فلا تكاد تستطيع تحديق النظر فيه. وقد لمست ذلك شخصيا عندما حظيت بمقابلته في مكتبه بقصر قرطاج في مطلع السبعينيات وقد مثّل ذلك حدثا هاما في حياتي لن ينمحي من ذاكرتي.
وكان رحمه الله إلى جانب ذلك على غاية من اللطف والتواضع وحسن القبول.
ومن بين الشمائل الأخرى للرئيس بورقيبة أنه لم يكن يولي المال أيّ اهتمام على حد تعبير الأستاذ الشاذلي القليبي، حيث أشار إلى أن بورقيبة ذكر في خطاب له أنه " لا يملك سوى بدلتين اثنتين " ولاحظ أنه لم يكن ذلك بعيدا عن الحقيقة.
ويستوقفنا في هذا الإطار ما ذكره الرئيس الأستاذ الباجي قائد السبسي، وهو من أبرز خريجي المدرسة البورقيبية، في كتابه " الحبيب بورقيبة المهم والأهم " والذي يعدّ من أهم المراجع حول شخصية وكفاح الزعيم. فقد أشار إلى أنه لما دخل الغرفة التي كان يقيم بها الرئيس بنزل "Lutetia" بباريس أيام الكفاح وقعت عيناه " على ملابسه الداخلية التي كانت ملقاة على كرسي وكانت بها عدة خروق ورقّعت بخيط احمر، فجأة أدركت أعماق هذا الرجل: إنه رجل لا يجري وراء المال ".  (الصفحة 21 من المرجع المذكور).
وفعلا لم يكن الحكم عند بورقيبة وسيلة لكسب المال، كما هو عليه  الآن لدى بعض الساسة الذين أثروا ثراء فاحشا، مستغلين مناصبهم السياسية لجمع المال بطريقة غير مشروعة، في حين أن بورقيبة لم يملك شيئا في حياته، وهي وضعية يكاد ينفرد بها في العالم قياسا برؤساء دول الآخرين.
لقد سمعنا بعض الأصوات التي امتلأت حيازيم أصحابها غمرا وغيضا وحسدا تنتقد اليوم الرئيس بورقيبة وسياسته لما كان ماسكا لزمام الحكم، ووصل الأمر ببعضهم إلى ذمّه وشتمه الى درجة التشكيك في وطنيته. وإنّ مثل هذا الذم والتشكيك مردود على أصحابه. إذ أن وطنية الرجل وحبه لتونس ولشعبها أمر ثابت وأن فضل بورقيبة على هذا الوطن العزيز لا يمكن لعاقل صادق أن يجحده، وأن عهده كان مرحلة مضيئة في تاريخ تونس الحديث. ولا يمكن بأية حال، نكران الانجازات التي تحققت أثناء فترة توليّه السلطة في جميع الميادين، الاقتصادية والثقافية والتربوية والاجتماعية والصحية، فقد أرسى ركائز الدولة الحديثة وتكوّنت بفضل نظام التعليم في عهده أجيال تتمتع بكفاءة عالية كانت من خيرة إطاراتها.
وإذا وقع التثريب على بورقيبة ارتكابه بعض الأخطاء، فذاك أمر طبيعي وهو بشر غير معصوم من الخطأ. كما أنه اجتهد وقد يخطئ المرء في الاجتهاد أحيانا. غير أنّ الأخطاء، إن وجدت، لا تنسينا ما بذله به الرجل من جهود كبرى في سبيل تحرير تونس ودعم استقلالها ونموها وتقدمها وغرس مقومات الحداثة. كما انه لا يمكن أيضا تقييم سياسة بورقيبة اعتمادا على المعايير والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة اليوم. إذ أنّ المنطق والموضوعية يفرضان أن يكون التقييم على أساس الظروف التي رافقت مرحلة تسلمه مقاليد الحكم في الخمسينيات، وكانت وضعية البلاد تستلزم آنذاك إتباع نمط معيّن في الحكم والسياسة يتأقلم مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والمناخ السياسي داخل البلاد وخارجها في ذلك الوقت.
ومن البديهي أن الرجل لم يبلغ الكمال. والذي لا يدركه أحد فالكمال لله وحده سبحانه وتعالى، غير أنّ كفاحه ووطنيته وإنجازاته تغفر له بعض الأخطاء إن وجدت.
رحم الله الزعيم الفذ الحبيب بورقيبة وطيّب ثراه.      
http://www.alchourouk.com/102413/151/1/-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%AD%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8%D9%8A%D8%A8_%D8%A8%D9%88%D8%B1%D9%82%D9%8A%D8%A8%D8%A9_%D8%B9%D8%A8%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%B2%D8%B9%D9%8A%D9%85_%D9%81%D9%80%D8%B0%D9%91_-.html