mardi 24 septembre 2019

النيابة العمومية بين تعليمات السلطة التنفيذية واستقلالية القضاء


شهدت البلاد بعد الثورة عدّة محاكمات شملت أصنافا مختلفة من الأشخاص من أجل جرائم متنوعة ذات خلفيات سياسيّة أحيانا ومنها ما يتعلّق بالحق العام وبحريّة الصحافة والتعبير وأدت إلى إيقاف العديد من المتهمين بموجب قرارات صادرة من النيابة العمومية أو بطاقات إيداع صادرة عن قضاة التحقيق أو دوائر الاتهام وأثارت هذه التتبعات والإيقافات جدالا كبيرا حول جملة من المسائل ذات الصلة بالمؤسسة القضائية تمحورت حول استقلال القضاء ومن بين المواضيع المطروحة على النقاش اليوم استقلالية النيابة العمومية ومعلوم أن القضاء العدلي هو الحامي الطبيعي للحريات الفردية وهي من أهم حقوق الإنسان الأساسية ولا يمكن للقضاء أن يحقق تلك الحماية على الوجه الأكمل إلا إذا كان مستقلا عن السلطة التنفيذية ومتحليا بالحياد والتجرد وان يكون في مأمن من أي ضغط ، ومعلوم أن القضاء العدلي ينقسم إلى قضاء جالس الذي يصدر الأحكام وقضاء واقف أي النيابة العمومية وسميت كذلك لأنه عندما يرافع احد أعضاء النيابة بالجلسة يكون واقفا ويمثلها لدى كل محكمة ابتدائية وكيل الجمهورية ولدى محكمة الاستئناف الوكيل العام ولدى محكمة التعقيب وكيل الدولة العام.

- صلاحيّات النيابة العمومية -

  تتمتع النيابة العمومية بصلاحيات كبيرة نصت عليها مجلة الإجراءات الجزائية في مقدمتها إثارة الدعوى العمومية وممارستها والمطالبة بتطبيق القانون وتولي تنفيذ الأحكام كما أن وكيل الجمهورية يقوم بمعاينة سائر الجرائم وقبول الشكايات وخاصة يجتهد في تقرير مآلها وله أن يأذن بإجراء تتبعات وأبحاث وله أيضا أن يحفظ الشكايات وهذا يعدّ من أهم صلاحياته وذلك عملا بمبدأ ملاءمة التتبع الخاضعة لاجتهاده المطلق وفي هذا السياق يقول المحامي الفرنسي المعروف G. KIEJMAN "إن النيابة العمومية نظرا لما لها من صلاحيات في حفظ الشكايات تعدّ أهم قاض في فرنسا" ولوكيل الجمهورية في حالة التلبس بجنايات أو جنح جميع ما لقاضي التحقيق من السلط ويمكنه اتخاذ قرار في إيقاف المظنون فيهم كما أن مأموري الضابطة العدلية يعملون تحت إشراف وكيل الجمهورية والمدعين العموميين ووكيل الجمهورية هو الذي يقرر التمديد في آجال الاحتفاظ والنيابة العمومية هي طرف أساسي في جميع القضايا الجزائية ويحضر ممثلها في جميع الجلسات ويطالب أثناءها بالمحاكمة طبق فصول الإحالة وعادة يطالب بتشديد العقوبات المستوجبة على مرتكبي الجرائم وهو يدافع مبدئيا عن المصلحة العامة وعن الهيئة الاجتماعية.
وللنيابة العمومية أيضا استئناف وتعقيب الأحكام الجزائية وكذلك استئناف قرارات قاضي التحقيق القاضية بالإفراج عن المتهم وفي هذه الصورة لا ينفذ قرار الإفراج إلى أن تبت دائرة الاتهام في الطعن.

- تجليات خضوع النيابة العمومية للسلطة التنفيذية -

إن هذه الصلاحيات الكبيرة التي تتمتع بها النيابة العمومية أثارت جدالا كبيرا لدى فقهاء القانون في مختلف أنحاء العالم وطرحت بالخصوص مسالة علاقتها بالسلطة التنفيذية ومدى استقلاليتها عنها خاصة وان وضعية النيابة العمومية في المنظومة القضائية الجزائية خاصة تختلف عن وضعية القضاء الجالس وتكريسا لخضوع النيابة العمومية للسلطة التنفيذية نص الفصل 15 من القانون المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة على أن "قضاة النيابة العمومية خاضعون لإدارة ومراقبة رؤسائهم المباشرين ولسلطة وزير العدل"، كما أن الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية خول لوزير العدل إبلاغ الوكلاء العامين لدى محكمة الاستئناف الجرائم التي يحصل له العلم بها وان يأذنهم بإجراء التتبعات سواء بنفسهم أو بواسطة من يكلفهم وبان يقدم إلى المحكمة المختصة الملحوظات الكتابية التي يرى وزير العدل من المناسب تقديمها  واقر الفصل الأول من القانون عدد 80 لسنة 1987 المؤرخ في 29/12/1987 نفس الأحكام كما أن الفصل 21 من مجلة الإجراءات الجزائية نصّ على أن "النيابة العمومية تقدم طلبات كتابية طبقا للتعليمات التي تعطى لها".
غير أن الفصل 15 من القانون المتعلق بنظام القضاء نصّ على أنه "أثناء الجلسة لأعضاء النيابة العمومية حرية الكلام" وذلك عملا بالمبدأ القانوني القائل بان "القلم أسير والكلمة حرة" ومعنى ذلك انه يمكن للنيابة العمومية أثناء الجلسة أن تبدي بكل حرية ما لها من ملحوظات شفاهية غير أنها مقيدة بالطلبات الكتابية التي لديها وقد تكون هناك طلبات صادرة عن عضو آخر من أعضاء النيابة باعتبارها لا تتجزأ وهذا أيضا من خصائص هذا الجهاز القضائي.
إن كل هذه النصوص تقر بكل وضوح عدم استقلالية النيابة العمومية عن السلطة التنفيذية إذ أنها خاضعة لتعليمات وزير العدل وهو يمثل السلطة التنفيذية باعتباره عضوا في الحكومة وهذه الوضعية موجودة أيضا في عدّة أنظمة قضائيّة أجنبيّة نذكر منها القانون الفرنسي الذي تخضع فيه النيابة العمومية لسلطة وزير العدل كما أن النظام الأساسي لأعضاء النيابة العمومية يختلف جزئيا عن نظام القضاة الجالسين إذ يمكن للحكومة في فرنسا تسمية ونقلة الوكلاء العامين ووكلاء الجمهورية بكل حرية بعد اخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء دون التقيد به، وفي المغرب فان وزير العدل هو الذي يشرف على تنفيذ السياسة الجزائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها وله أن يأمرهم كتابة بمتابعة مرتكبي الجرائم طبق الفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية المغربيّة، وفي مصر تنصّ المادة 125 من القانون رقم 142 لسنة 2006 على أن أعضاء النيابة يتبعون رؤسائهم والنائب العام ولوزير العدل حق الرقابة والإشراف الإداري على النيابة وأعضائها ويبرر بعضهم تبعية النيابة العمومية للسلطة التنفيذية وترؤس وزير العدل لها بكون هذا الأخير هو المسؤول عن سياسة الدعوى العمومية التي تضبها الحكومة ويسهر على تطبيقها، وقد نص الفصل 30 من مجلة الإجراءات الجزائية الفرنسية على ذلك غير أن في التشريع الفرنسي لا يمكن لوزير العدل أن يأذن بعدم التتبع في حين انه يمكنه الإذن بالتتبع وكانت تكونت لجنة في فرنسا للتفكير في القضاء الجزائي سنة 2009 سميت لجنة Leger اعتبرت انه لا يمكن إقصاء السلطة التنفيذية التي تستمد شرعيتها من العملية الديمقراطية من ضبط السياسة الجزائية والعمل بها بكامل تراب الجمهورية وانه لا يمكن قطع الصلة بين النيابة العمومية والسلطة التنفيذية غير أن رأي هذه اللجنة كان محل انتقاد العديد من فقهاء القانون والهيآت المهتمة بالشأن القضائي.

- نتائج عدم استقلاليّة النيابة العموميّة عن السلطة التنفيذية -

ارتفعت الأصوات في العديد من البلدان التي تخضع فيها النيابة العمومية للسلطة التنفيذية منادية باستقلالها عنها حتى تؤدي دورها في حماية حقوق الإنسان والحريات العامة، فقد انتقدت نقابة القضاة في فرنسا بتاريخ 16/03/2006 خضوع النيابة العمومية للسلطة التنفيذية ودعت الندوة الوطنية لوكلاء الجمهورية بفرنسا بتاريخ 08/08/2010 إلى محو "صورة نيابة عمومية غير مستقلة عن السلطة التنفيذية" كما أن المجلس الاستشاري للقضاة الأوروبيين اعدّ ميثاق للقضاة بتاريخ 17/11/2010 تضمن أن استقلالية النيابة العمومية هي من متطلبات دولة القانون.
إن عدم استقلالية النيابة العمومية عن السلطة التنفيذية جعلت جانبا من فقه القضاء ورجال القانون يذهبون إلى أن النيابة العمومية ليست سلطة قضائية إذ أن خضوعها للسلطة التنفيذية تجردها من إحدى المواصفات الأساسية التي يجب أن يتحلى بها القضاء وهي الاستقلالية وفي هذا السياق اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن النيابة العمومية في فرنسا ليست سلطة قضائية لأنها ليست مستقلة عن السلطة التنفيذية وصدر في هذا المعنى حكم بتاريخ 29/03/2010 وحكم آخر بتاريخ 23/11/2010 في قضية المحامية "مولان" تضمن  أن أعضاء النيابة العمومية بفرنسا لا تتوفر فيهم مقتضيات الاستقلالية إزاء السلطة التنفيذية وأكدت محكمة التعقيب الفرنسية في قرار لها صدر في 15/12/2010 نفس الاتجاه غير انه في اعتقادنا أن هذا الرأي ينطوي على بعض  الشطط لان النيابة العمومية حتى ولو كانت غير مستقلة عن السلطة التنفيذية تبقى مع ذلك سلطة قضائية بدليل أن القوانين الأساسية للقضاة تشملهم كما هو الشأن في التشريع التونسي إذ استعمل المشرع عبارة "قضاة النيابة العمومية" وأكد المجلس الدستوري في فرنسا في قراره الصادر في 05/08/1993 أن وكيل الجمهورية هو قاض تابع للسلطة القضائية فهو يساهم في مراقبة احترام ضمانات الحريات الفردية كما أكّد في قراره المؤرخ في 11/08/1993 أن السلطة القضائية تشمل القضاء الجالس والنيابة العمومية والرأي عندنا أن النيابة العمومية تبقى سلطة قضائية ولكنها غير مستقلة عن السلطة  التنفيذية باستثناء النيابة العمومية لدى محكمة التعقيب الممثلة في شخص وكيل الدولة العام الذي لا يخضع لتعليمات وزير العدل إلا في حالة واحدة نصّ عليها الفصل 258 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي خوّل له الطعن بالتعقيب في الأحكام والقرارات الصادرة في الأصل نهائيا بناءا على الأمر الصادر له من وزير العدل.
إنّ خضوع أعضاء النيابة العمومية للسلطة التنفيذية يجعلهم بمثابة الموظفين حسب بعضهم وفي هذا الإطار يرى رئيس المجلس الدستوري الفر نسي الأسبق Pierre Mazeaud أن القاضي ليس موظفا فهو يصدر الأحكام باسم الشعب في حين أن الموظف مرؤوسا وفي هذا السياق يقول احد قضاة التحقيق الفرنسيين وهو Mathieu Bonduelle أن "النيابة العمومية تبدو كأنها حصان طروادة بالنسبة للسلطة التنفيذية في سير عمل السلطة القضائية وانه يتعين إدخال إصلاحات على مؤسسة النيابة العمومية لضمان استقلاليتها إزاء وزارة العدل لتحقيق الفصل بين السلط".

-      آليات تكريس استقلالية النيابة العمومية عن السلطة التنفيذية –

هناك عدة طرق لضمان استقلالية النيابة العمومية في مقدمتها إعطاء ضمانات ناجعة لأعضائها وحمايتهم من العزل والنقل والعقوبات التأديبية التعسفية كما انه يجب إقرار أحكام خاصة بتعيينهم وبمسارهم المهني.
وبالرجوع إلى القانون المقارن نلاحظ أن الأنظمة التي تخضع لها النيابة العمومية تختلف من بلد إلى آخر خاصة في مستوى الجهاز المكلف بالنيابة العمومية وفي خصوص تعيين أعضائها وبالأخص المشرف عليها وهناك نظامان كبيران في العالم في الوقت الحاضر
النظام الأول: يتمثل في انتخاب رئيس النيابة العمومية وقد وقع العمل بهذه الطريقة في بلدان أوروبا الشرقية قبل سنة 1989 ويتم الانتخاب من قبل البرلمان أو مجالس محلية ومازال هذا النظام معمولا به حتى الآن بالمجر أين ينتخب النائب العام من قبل البرلمان لمدة ست سنوات كما انه مازال العمل أيضا بنظام الانتخاب في الولايات المتحدة الأمريكية باستثناء ولايتي فلوريدا وهاواي إذ يقع انتخاب النائب العام في مستوى الولايات ويسمى Districts attorneys  من قبل مجموع السكان ولا يخلو انتخابه من طابع سياسي إذ أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يدعم كل واحد منهما مرشحه إلا انه يشترط في المترشحين الكفاءة القانونية العالية، وعادة ما يكون المترشح من بين المحامين الناجحين في عملهم المهني ويتم الانتخاب لمدة تتراوح بين عامين وأربع سنوات أما النائب العام على المستوى الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية ويسمى United States attorneys  فان الرئيس هو الذي يسميه لمدة أربع سنوات ويتمتع بصلاحيات هامة.
النظام الثاني: يكون فيه النائب العام معينا ولا منتخبا وهذا النظام معمول به بفرنسا وكذلك في السويد بعد إتباع إجراءات خاصة واجتياز امتحان مهني وفي بقية البلدان عادة ما تتم تسمية أعضاء النيابة العمومية من قبل رئيس الدولة وفي اسبانيا يعين رئيس النيابة العمومية من قبل الملك ولكنه ليس ملزما بالامتثال لتعليمات الحكومة وفي البرتغال اقر الدستور صراحة استقلالية النيابة العمومية بالفصل 221 منه ولا يترأس وزير العدل النيابة العمومية بل الوكيل العام للجمهورية وفي ايطاليا فان النيابة العمومية مستقلة عن السلطة التنفيذية ولكنها ملزمة في كل الحالات بالإذن بالتتبع.
وفي ألمانيا وبولونيا واليابان يخضع أعضاء النيابة العمومية لرؤسائهم.  
وفي مصر يسمى النائب العام من قبل رئيس الجمهورية طبق الفصل 119 من القانون عدد 35 لسنة 1984 المتعلق بالسلطة القضائية من بين نواب رؤساء الاستئناف أو مستشاري محكمة النقض أو المحامين العامين الأول على الأقل وللنائب العام أن يطلب عودته إلى العمل بالقضاء كما أن الفصل 67 من نفس القانون نص على أن النيابة العامة عدى معاوني النيابة غير قابلين للعزل ولا ينقل مستشار محكمة النقض إلى محكمة الاستئناف أو النيابة العامة إلا برضائهم ومعلوم أن مصر شهدت حدثا سياسيا وقضائيا هاما متمثلا في أن الرئيس السابق محمد مرسي اصدر قرارا جمهوريا بتاريخ 21/11/2012 قضى بتنحية النائب العام عبد المجيد محمود إلا أن محكمة الاستئناف بالقاهرة ألغت هذا القرار بتاريخ 27/03/2013 وعللت حكمها بقولها "أن قرار العزل فيه مساس مباشر باستقلال السلطة القضائية وحصانتها المقررة بموجب الوثائق الدستورية وبحصانة منصب النائب العام المقرر بموجب قانون السلطة القضائية وانه كان من المتعين أن يتم استفتاء الشعب عليه لا أن تنفرد السلطة التنفيذية والذي هو في الأصل محصن منها بإصداره وتنفيذه بشكل فوري " وهذا القرار يكتسي أهمية كبيرة إذ يؤكد الحصانة التي يتمتع بها النائب العام في مصر وبأنه لا احد يعلو القانون وهو قرار يكرس دولة القانون واستقلال القضاء المصري عن السلطة التنفيذية.
وتمّ التعرّض لمسألة استقلاليّة النيابة العمومية عند إعداد الدستور الجديد من قبل المجلس الوطني التأسيسي ودار نقاش كبير بين النوّاب حول هذا الموضوع انتهى الى "صيغة توافقية" تتمثّل فيما نص عليه الفصل 115 من الدستور الجديد من أنّ "النيابة العمومية جزء من القضاء العدلي وتشملها الضمانات المكفولة له بالدستور. ويمارس قضاة النيابة العمومية مهامهم المقررة بالقانون وفي إطار السياسة الجزائية للدولة طبق الإجراءات التي يضبطها القانون".
ومن الواضح أنّ هذا الفصل لم ينص صراحة على استقلاليّة النيابة العمومية واكتفى بتمتيع أعضائها بالضمانات التي تضمنها الدستور ممّا يعني أنّ هذا الموضوع مازال مطروحا طالما أنّه لم يقع التنصيص صراحة في الدستور على استقلاليّة النيابة العمومية عن السلطة التنفيذية ومازالت الاحكام الواردة بمجلة الإجراءات الجزائيّة بالفصلين 21 و23 والمتضمنة خضوع النيابة العمومية لتعليمات السلطة التنفيذية نافذة المفعول ممّا يجعل موضوع استقلالية النيابة العمومية مازال مطروحا طالما لم يقع التنصيص صراحة على تلك الاستقلاليّة في الدستور أو في القانون.
وإنّ هذه الاستقلالية ضرورية لأنها ضمان لاحترام الحقوق والحريات الأساسية وتحول دون  تدخّل السلطة التنفيذية في الشأن القضائي وفي بعض القضايا التي قد تكون لها خلفيات سياسية وحتى قضايا أخرى، بالإضافة إلى تكريس الفصل بين السلط وهو قوام النظام الديمقراطي ويمكن التفكير في إحداث هيئة خاصة بالنيابة العمومية على غرار ما هو موجود في بعض البلدان الأجنبية مع الاستئناس بالقانون المقارن خاصة في تشريعات الدول العريقة في الديمقراطية واحترام الحقوق الأساسية للمواطن وسنّ نصوص تضمن استقلالية القضاء سواء كان الجالس أو الواقف إذ هو الكفيل وحده بضمان تلك الحقوق شريطة أن يكون في مأمن من أي ضغط أو تدخل مهما كان نوعه، فالقضاء  إما أن يكون مستقلا أو لا يكون.
وفي نظرنا هناك خياران يمكن إقرار أحدهما:
 الخيار الأول: يتمثل في الإبقاء على النظام الحالي للنيابة العمومية مع تنقيح الأحكام المتعلقة الخاصة بها والواردة بمجلة الإجراءات الجزائية والقانون الأساسي للقضاة وذلك بحذف بعض الفصول المكرسة لتبعية وخضوع النيابة العمومية لتعليمات السلطة التنفيذية ممثلة في شخص وزير العدل.
 الخيار الثاني: يتمثل في إحداث خطة نائب عام يرأس النيابة العمومية يتمتع باستقلالية وبحصانة خاصة على غرار النائب العام بمصر وفي غيرها من البلدان الأوروبية بالخصوص، دون أن يمنع ذلك من خضوعه لإشراف إداري ويمكن التعمق في جزئيات هذا الخيار بالاستئناس بالقانون المقارن ورأي فقهاء القانون والأنظمة القانونية الأجنبية.
وفي اعتقادنا انه لا بدّ من تحديد صلاحيات صاحب هذه الخطة وإقرار بعض الضوابط لان استقلالية النيابة العمومية لا يعني منحها نفوذا مطلقا إذ يخشى أن يؤدي ذلك إلى التعسف وبعض التجاوزات واتخاذ قرارات أو إجراءات اعتباطية قد تمس من الحريات الأساسية وقد حذر العديد من فقهاء القانون ممّا سمّي "شبح حكومة القضاة" وهو مصطلح كان استعمله Edouard Lambert سنة 1921 في معنى محدد مرتبط بدور المحكمة العليا الأمريكية في مراقبة دستورية القوانين ثمّ أصبح مستعملا اليوم في معنى آخر يتمثل في ما يمكن أن يصدر عن بعض القضاة المتمتعين بنفوذ واسع من قرارات تعسفية كما أن من معاني "حكومة القضاة" طبق ما جاء في إحدى معاجم العلوم السياسية الوضعية التي يصبح فيها القضاة قادرين على إحلال خياراتهم الشخصية محل خيارات أصحاب السلطة السياسية بإلغاء قراراتهم أو بتهديدهم بالتتبعات وهذا خطر كبير وفي هذا السياق تقول الأستاذةDanièle Lochak "إن دولة القانون في حاجة إلى قضاة لكن النفوذ الممنوح لهم قد ينجم عنه "شبح حكومة القضاة" ممّا تصبح معه مقتضيات دولة القانون متعارضة مع متطلبات الديمقراطية"، ولا شك أن كل هذه الاعتبارات تستوجب معالجة هذا الموضوع بكل حذر للحيلولة دون أن تؤدي استقلالية النيابة الكاملة إلى التعسف في نفوذها واتخاذ قرارات اعتباطية وتحكمية والاستقلالية هي أيضا في آخر الأمر مسؤولية أو لا تكون.       



                                                                                     عبد الله الأحمدي
دكتور دولة ومبرز في القانون الخاص والعلوم الجنائية