jeudi 28 mars 2019

عن أٌيّة دولة قانون نتحدّث؟


 عن أٌيّة دولة قانون نتحدّث؟
                                                       * بقلم الدكتور عبد الله الأحمدي

وقّعت أخيرا بعض المنظمات والجمعيّات في تونس على "وثيقة عهد دولة القانون" والهادفة حسب أصحاب هذه المبادرة إلى "تطبيق أحكام الدستور واحترامها ووضع حد للإفلات من العقاب وإعادة الاعتبار إلى سيادة القانون".
ونحن نبارك هذه المبادرة الهامة والإيجابيّة رغم أنها جاءت متأخرة نسبيا بعض الوقت نظرا إلى ما شاهدناه في البلاد من ممارسات وتصرفات وانحرافات خطرة تنطوي على انتهاكات للقانون والاستهتار به وعدم قيام الدولة بواجباتها في التصدي لهذه التصرفات وفرض احترام القانون وهو من أوْكد مهامها فضلا على أنّ النظام هو جزء من شعار الجمهورية المنصوص عليه بالفصل 4 من الدستور وهو يقتضي فرض احترام القانون.
ويكفي التذكير ببعض الاحداث التي عاشتها البلاد من اعتصامات عشوائية أحيانا وقطع وغلق الطرقات والتوقف عن العمل والإنتاج في بعض القطاعات الهامة التي تساهم في مداخيل الدولة والتنمية دون احترام التراتيب والقوانين الجاري بها العمل، الأمر الذي تسبب في خسائر جسيمة للبلاد، والحال أن الدستور، ولئن أقرّ الحق في الإضراب بالفصل 36 منه، إلا أنّ مجلة الشغل ضبطت الإجراءات التي يجب احترامها عند ممارسة هذا الحق.
على أنّ الذي يهمّنا هو الوقوف على مفهوم مبدأ دولة القانون ومظاهره، وهل له مكانة في الدستور الجديد؟
مفهوم دولة القانون
من المعلوم أنّ مصطلح دولة القانون الذي يقابله في اللغة الألمانية لفظة Rechtssaat هو وليد الفكر السياسي الألماني، وكان أول من استعمله المفكر الألماني Petersen Johann Withelm عام 1798. كما ساهم الفكر الإنقليزي في بروز نظرية دولة القانون، ويقابل هذا المصطلح في اللغة الإنقليزية عبارة Rule of Law أي سيادة القانون أو سلطان القانون.
ومن أبرز منظّري هذا المبدأ في إنقلترا الحقوقي Edward Coke الذي نادى بإخضاع المَلك للقانون تحت رقابة قضاء مستقل وطالب بفرض علوية القانون حتى على البرلمان.
وفي فرنسا نادى المفكر جان جاك روسو بإرساء دولة ينظّمها القانون ويقيّدها، وفي ذات السياق يرى المفكر الكبير Montesquieu أنه يجب على القاضي الخضوع لسيادة القانون. ومن أقواله المأثورة "إنّ قضاة الأمة ليسوا سوى الفم الذي يتفوّه بعبارات القانون". ولعل أول من استعمل مصطلح دولة القانون في فرنسا هو الأستاذ Leon Duguit في مقدمة كتابه الصادر عام 1901 حول الدولة والقانون الموضوعي، وهو يرفض فكرة الحد الذاتي من سلطة الدولة ويرى أن القاعدة القانونية تعلو الفرد والدولة والحكّام والمحكومين.
ويعتبر الأستاذ Jean Chevalier من أبرز منظّري مفهوم دولة القانون، وهو يرى أن دولة القانون هي التي لا يمكن لمختلف أجهزتها أن تتصرّف إلا بمقتضى تأهيل قانوني، وعليها الامتثال للأحكام الصادرة ضدها مثل سائر الخواص، وأنّ الذي يحدّ من قوة الدولة هي الحقوق الأساسية المعترف بها، وهو يرى أن دولة القانون مرتبطة ارتباطا وثيقا بحماية حقوق الإنسان والديمقراطية.
وقد تأثّر المفكر الفرنسي Carré de Malberg بالمدرسة الألمانية، إذ أنه يميّز بين دولة القانون والدولة القانونية، كما يرى أنّ من خصائص نظام دولة القانون أنّ السلطة الإدارية في علاقتها بالمتعاملين معها لا تستعمل إلا الوسائل التي يسمح بها النظام القانوني، وأصبحت نظرية دولة القانون محل اهتمام الفلاسفة ورجال السياسة بعد أن كانت شبه منحصرة في رجال القانون.
وقد ظهر اتجاه فقهي قانوني وسياسي ينادي بإقرار مراقبة دستورية القوانين. كما ظهرت دراسات فلسفية تعتبر دولة القانون وسيلة لإضفاء الشرعية على العمل السياسي.
ويمكن القول إنّ في دولة القانون يحدّ القانون من سلطاتها، وهي الدولة التي تحترم هي نفسها القانون وتفرض احترامه على الجميع، ويقع إرساء نظام يكرّس علوية القانون ولا يكون فيها الحكم مبنيا على استعمال القوة، وبذلك تصبح دولة القانون نقيض دولة البوليس التي تكون تصرفاتها مبنية على استعمال القوة. وقد وصف بعضهم دولة البوليس بأنها دولة غير متحضّرة.
وخلاصة القول فإنّ دولة القانون تكرّس المساواة بين المواطنين بدون تمييز يؤاخذون في صورة أي خرق للقانون فلا حصانة لأحد مهما كان وضعه الاجتماعي أو انتماؤه السياسي أو إمكانياته المادية، فلا فرق بين غني أو فقير، وبين ضعيف أو قوي، فهي الدولة التي يتساوى فيها الناس أمام القانون والقضاء. ونلمس هذا المبدأ في الكتاب المشهور الذي كان وجهه عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري عندما وُلّي القضاء بالكوفة ووصفه ابن خلدون بأنّه تدور عليه أحكام القضاة وجاء فيه بالخصوص "وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك". كما أنّ دولة القانون هي الدولة التي لا ينبغي أن يصبح فيها القانون. كما قال الكاتب الفرنسيHonoré de Balzac "كنسيج العنكبوت الذي لا يخرقه إلا الذباب الكبير ويبقى الصغير".
كما أنّ دولة القانون تقتضي وجود سلطة مقيّدة خاضعة لجملة من القواعد وتقتضي أيضا ان يكون الحُكّام مثل بقية المواطنين ملزمين باحترام القواعد القانونية الجاري بها العمل وليسوا فوق القانون
ثمّ إن دولة القانون تضمن استقلال القضاء والحرية والكرامة البشرية وتحترم الأقليات وتقرّ الديمقراطية وتدعّم دور القانون في سير عمل الدولة.


غياب مبدأ دولة القانون في الدستور الجديد !
لقد كان الفصل الخامس من دستور غرة جوان 1959 المنقّح بالقانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002 المؤرخ في غرة جوان 2002 ينص على أنه " تقوم الجهورية التونسية على مبادئ دولة القانون والتعددية وتعمل من أجل كرامة الإنسان وتنمية شخصيته". إلا أنّ المجلس الوطني التأسيسي الذي وضع دستور جانفي 2014 تراءى له عدم التنصيص فيه على مبدأ دولة القانون، ولا نجد في الأعمال التحضيرية تبريرا مقنعا لهذا الموقف الغريب الذي لا يستند إلى أيّ سبب وجيه ومنطقي، خاصة وأنه وقع التنصيص في الدستور الجديد على بعض الحقوق التي هي أقلّ أهمية من مبدأ دولة القانون، من ذلك ان الفصل 43 ينص على سعي الدولة الى توفير الإمكانيات اللازمة للممارسة الأنشطة الرياضية والترفيهية، وفي اعتقادنا أن الترفيه رغم جدواه ليس أكثر أهمية من مبدأ دولة القانون الذي وقع تغييبه في الدستور !
وهناك رأي ذهب أصحابه إلى أن الدستور الجديد نصّ في التوطئة وفي فصله الثاني على علوية القانون وأنّ هذا يغني عن التنصيص على دولة القانون.
وتقديرنا أنّ هذا الرأي غير وجيه، إذ هناك فرق بين مفهوم دولة القانون وعلويته.
وقد أبرز فقهاء القانون ذلك في عدّة دراسات، ومنهم الاستاذ Jacques-Yvan Morin وكذلك الأستاذ Daniel Mockle الذي بيّن الفرق بين المفهومين في مقال له نشر بإحدى المجلات الكندية في شهر ديسمبر 1994، ولا يسمح المقام بالتوسّع في هذه المسألة الفنية.
إنه من الغريب والمؤسف أن يتمّ تغييب مبدأ دولة القانون في الدستور الجديد، رغم انتشار استعمال هذا المبدأ في عشرات الدساتير الأجنبية في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في الدول الأوروبية. كما أنّ العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية والإقليمية كرّست هذا المبدأ، من بينها ميثاق أمستردام الموقّع عليه من قبل دول المجموعة الأوروبية وميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي. كما تضمّن الإعلان النهائي الصادر عن المؤتمر العالمي لحقوق الانسان الذي كان انعقد في فيانا في شهر جوان 1993 الدعوة إلى تدعيم المؤسسات الوطنية والهياكل للمحافظة على دولة القانون ومن ناحية أخرى فانّ المؤسسات المالية وخاصة البنك العالمي اعتبر مبدأ دولة القانون من بين ركائز النظام الدولي الجديد، بالإضافة إلى حقوق الإنسان والديمقراطية وارتباط كل ذلك بالحوكمة الرشيدة.
دولة القانون لا تكتمل إلا بإرساء قضاء دستوري
لقد أجمع فقهاء العلوم السياسية، ومن بينهم الأستاذان L. Favoreu  و J. Chevalier على أن من مقوّمات دولة القانون وجود قضاء دستوري، نظرا إلى الدور الهام الذي يقوم به هذا السلك والمتمثل أساسا في مراقبة دستورية مشاريع القوانين او المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهورية قبل ختم مشروع قانون الموافقة عليها طبق ما جاء بالفصل 120 من الدستور.
إلاّ أنّه إلى حد الآن لم يتمّ تكوين المحكمة الدستورية، إذ لم يقع تعيين إلاّ عضو واحد ولم يتوصّل مجلس نواب الشعب الى تعيين ثلاثة أعضاء آخرين، ومردّ ذلك عدم حصول "التوافقات" بين الأحزاب السياسية على اختيارهم، وكأنّ كلّ حزب يريد أن يعيّن عضوا أو أعضاء ينتمون إلى نفس توجهاته أو مبادئه في المحكمة الدستورية، وهو مظهر من مظاهر إرادة التّموقع فيما سمّي "بمفاصل الدولة" وفي رأينا أنّ هذا التمشّي غير وجيه، بالنظر إلى الصبغة القضائية للمحكمة الدستورية التي من المفروض أن يتحلّى أعضاؤها بالإضافة إلى الخبرة الطويلة والكفاءة العالية، بالاستقلالية والحياد والنزاهة طبق الفصل 8 من القانون الأساسي عدد 50 المؤرخ في 03/12/2015 والمتعلق بالمحكمة الدستورية، كما ان المفروض أيضا ان يتحلى الأعضاء بالتجرّد المفروض على كلّ قاض.
وقد أدّى هذا التأخير الكبير في استكمال تركيبة المحكمة الدستورية إلى تعطيل انطلاق عمل مؤسسة من أهمّ المؤسسات الدستورية والتي لها مكانة مرموقة ضمن مؤسسات الدولة.
وإنّه من المؤسف، إن لم نقل من المخجل، أن يتسبّب مجلس نواب الشعب في هذه الوضعية والحال أنه كان من المفروض القيام بمهامّه وواجبه في خصوص هذا الموضوع منذ انتخابه، وقد مضى على ذلك أكثر من أربع سنوات، وتشارف مدته النيابيّة على النهاية. وكان من المفروض أيضا التخلّي عن الأنانية الحزبية والجشع السياسي والفهم الخاطئ لمهام وطبيعة المحكمة الدستورية. فهي هيئة قضائية بالأساس، من المتأكد أن تبقى في منأى عن التجاذبات والصراعات السياسية التي تخْضد قوّة الدولة وتحول دون اكتمال مقوّمات دولة قانون.
ومن هنا يأتي اقتراحنا في أن تتحرّك المنظمات والجمعيّات التي وقّعت على وثيقة عهد دولة القانون وتبادر بالقيام بحملة تحسيسيّة للتعريف بهذا المفهوم، وخاصّة دعوة مجلس نواب الشعب إلى استكمال تعيين المحكمة الدستورية، باعتبار ارتباط هذه المؤسسة بدولة القانون، وكذلك المطالبة بتنقيح الدستور والتنصيص فيه على مبدأ دولة القانون حتّى يرتقي إلى مرتبة دستورية، كما انه حان الوقت أيضا للتفكير في تنقيح القانون المؤرخ في 03/12/2015 والمتعلق بالمحكمة الدستورية وخاصة الفصل 11 منه المنظم لكيفية تعيين مجلس النواب لأربعة أعضاء والذي اشترط ان يتم انتخاب بأغلبية الثلثين من أعضائه وهي اغلبية قد يصعب توفرها مما يساهم في تعطيل عملية التعيين كما وقع في المدة الأخيرة ولا شيء يبرر تلك الأغلبية القوية التي ليس من السهل الظفر بها خاصة في الوقت الذي تعدّدت فيه الكتل النيابية والسياحة الحزبية وعدم وجود اغلبية برلمانية مستقلة ومنسجمة.
كما انه يمكن التفكير أيضا في تنقيح الدستور في خصوص عملية كيفية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية بصفة عامة علما بان الاتجاهات في الأنظمة السياسية في مختلف انحاء العالم حول هذا الموضوع متباينة من ذلك ان في الدستور الفرنسي مثلا يتم تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ كما ان بعض الدول الأخرى اختارت طريقة الانتخاب من قبل المجالس النيابية.
وعلى كل، يحسن إعادة النظر في هذه المسألة لتفادي سلبيات الاحكام الدستورية والقانونية المتعلقة بهذا الموضوع الهام.
*أستاذ تعليم عال متميّز
                                                                         بكليّة الحقوق والعلوم السياسيّة بتونس