jeudi 7 avril 2016

الحبيب بورقيبة: زعامةٌ فذّةٌ، وجهاد كبير في سبيل تونس ورُقيّ شعبها



                                                                   بقلم الدكتور عبد الله الاحمدي

في مثل هذا اليوم من سنة 2000 فقدت تونس أحد أبنائها البَرَرَة ورِجَالاتِها الكبار الزّعيم الحبيب بورقيبة.
 إنّ الحديث عن مآثر هذا القائد العظيم يطول نظرا الى ما تَميّز به من خصال فريدة، فقد وَهَبَهُ الله مؤهّلات وقدرات عديدة كان لها ابعد الأثر في نحت شخصيته على مدى اطوار حياته منها قوّة الشّخصية والكاريزما والذّكاء الوقّاد والفكر الثّاقب والشّجاعة النّادرة والحنكة السياسيّة الفائقة سواءٌ في فترة الكِفَاح التحريري ضد الاستعمار او في مرحلة بناء الدولة العصرية ويلمس هذه المميزات كل من اقترب منه او التقى به وقد كنت من اللذين حَظَوْ بمقابلته في مكتبه بقصر الجمهورية بقرطاج ويسكنني الى اليوم شعور فيّاض بالانبهار بملامح شخصيّته وقوّة ذاكرته وإِلْمَامه الواسع بالقانون.
 لقد كرّس بورقيبة أغلى سنوات العمر في خدمة الوطن والنهوض بشعبه من أجل ذلك قضّى أَوْقاتًا طويلة في غَيَاهِب السّجون والمنافي داخل البلاد وخارجها. ولم يَنَلْ ذلك من عزيمته وإصْرَارِه على مواصلة مقاومة الإستعمار الفرنسي، وأظْهَرَ مقدرة فائقة في وضع إستراتيجيّة واضحة المعالم والرُؤى تقوم على سياسة المراحل التّي أكّدت الأيّام جدواها. وقد إستغل ثقافته الواسعة التّي إكتسبها خلال دراسته في تونس وفي فرنسا أثناء فترة الكفاح متبنيا مبادئ عصر الأنوار وقيمه، وأظهر بورقيبة مهارة لا توصف في التّعامل مع الأحداث وقد ساعده على النّجاح بُعْد نظر وحسن قراءته للتّاريخ وإستخلاص العِبَر منه وتَمَتُّعِه بحدس سياسي متفرّد مكّنه أحيانا من توقع أحداث قبل حصولها من ذلك أنّه كان تَنَبَأ بانهزام قوّات المحور في مواجهته مع الحلفاء ودعا وهو رهين الاعتقال بإحدى السّجون الفرنسيّة الرّاجعة بالنظر الى المحور إلى عدم مُؤَازَرَته مُنَاصِرا بذلك قوّات التحالف قبل أن تنتصر في الحرب العالميّة الثّانية ويصدق في شأنه قول أبي الطيّب المتنبي الذّي كان بورقيبة معجبا بشعره:
                              "ذَكِيٌّ تَظنِيهِ طَليعَةٌ عَيْنِه
                                                               يَرَى قَلْبُهُ فِي يَوْمِهِ مَا تَرَى غَدا"
وكان الرئيس الراحل يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع نظرًا الى ما جُبِلَ عليه من فصاحة قلّ نظيرها فقد كان خَطِيبا مِصْقَعاً ذَلِيقًا، وظهرت هذه الموهبة في مناسبات فارقة نذكر منها مؤتمر قصر هلال في 2 مارس 1934 والخطاب الذّي ألقاه في مؤتمر الحزب الحر الدستوري بصفاقس في نوفمبر 1955 وقد وصفه الأستاذ الشّاذلي القليبي بأنه "أقوى الخطب في حياته السياسيّة".
ولا نَنْسَى أيضا خطاب 25 جويلية 1957 الذّي ألقاه أمام المجلس القومي التأسيسي والذّي تُوِّج بالإعلان عن الجمهورية وأكد فيه آنذاك ما يتمتّع به من مقومات الزَّعَامَة الحقيقية.
 إثر الإستقلال خاض الحبيب بورقيبة معركة أخرى لا تَقِلّ أهمية عن النضال ضد الإستعمار وقد سماّها "معركة التخلّف" بكلّ مَظَاهِره والعمل على تنمية البلاد وإلْتِحَاقها "بِرَكْب الدُول المتقدّمة" كما اطلق عليها أيضا مصطلح الجهاد الأكبر ويجدر التّذكير بالأوضاع المُزْرِيَة التّي كانت عليها تونس عند حصولها على الاستقلال، فقد كانت الأُمِيّة سائدة في جُلّ الأوساط إلاّ نخبة قليلة محظوظة جدّا تمكنت من أخذ نصيبها من الثقافة وكان الفقر منتشرا والامراض متفشية هنا وهناك وجل الطبقات الشعبية يعاني من الخصاصة والمجاعة فواجهت الدّولة الفتيّة برئاسة بورقيبة هذه الصعوبات والحالات القاسية واستطاع رفع التّحديات.
كما اضطلع قائد تونس الحديث بدَوْر كبير في هذه المعركة الجديدة، ولا يسمح المقام بإستعراض مختلف الإنجازات وهي معروفة، وتكفي الاشارة الى مراكز محو الأُميّة وبناء المدارس في شتّى أنحاء الجمهوريّة وخاصّة بالقرى والمداشر والارياف وحتّى بالأماكن النَائِيَة وبقمم الجبال التي يعسر الوصول إليها. فتكوّنت بفضل هذه السياسة المتبصرة إطارات وطنيّة ذات كفاءات عالية تضاهي إطارات البلدان الراقية وقد كان لها الدور الأساسي في بناء أركان الدّولة التونسيّة العصرية وتركيز مؤسساتها كما بُعِثَتْ المستوصفات في أرجاء البلاد.
وكان بورقيبة إلى جانب تسيير شؤون الدّولة مُهْتَمًا بجوانب أخرى من حياة المواطنين اذ يُخَصِّصُ "خطابه الأسبوعي" آنذاك لتوعية الشعب من خلال الحديث عن مواضيع إجتماعيّة تهم المواطنين مباشرة في حياتهم اليومية وكان بمثابة المُعَلِّم للامة التونسية يحدّثها عن ضرورة "تحسين الهندام" والنظافة وتهذيب لغة التخاطب وتنظيم النسل الى غير ذلك من المواضيع الاجتماعية وكان يستعمل في خطبه أسلوبا جذابا يشدّ الانتباه وبلغة تفهمها العامة فأصبحت خُطبه ذات شأن وعميقة التأثير في كل الأوساط بل كانت من قبيل الامتاع.
ولا ننسى أيضا الدور الرّيادي للرئيس بورقيبة في غرس روح الحداثة بكل جوانبها واقدامه على تحرير المرأة من القيود التّي كانت تكبلها وتمسّ بكرامتها وتحقيق المساواة بينها وبين الرّجل فكانت مجلة الأحوال الشخصية علامة مضيئة في العالم العربي والإسلامي، وما كان لهذه المجلة أن تصدر في تلك الظروف الخاصّة لولا شجاعة بورقيبة وما كان يتحلى به من جرأة في أخذ المبادرات والمواقف.
ومما يحز في النفوس ويدعو الى الاستغراب والامتعاض أن نستمع اليوم الى أصوات للبعض ممن لا يزالون ينتقدون بورقيبة متناسين بذلك ما قدّمه في سبيل تونس من تضحيات جسام وما حققه لشعبها من إنجازات وفيرة طالت كل الميادين ساهمت في تقدم البلاد وادخالها في نهج الحداثة.
وقد إنتقد بعضهم أخيرا مبادرة ارجاع النصب التذكاري للزعيم بورقيبة الى مكانه الأصلي بقلب العاصمة كما عارض آخرون حتّى إحياء ذكرى وفاة الزعيم الرّاحل.
وفي تقديرنا أن هذا الموقف هو ضرب من الجحود إزاء رجل جعل من تونس قضيته الأولى والوحيدة في حياته، فلم يستغل السلطة أبدا لقضاء مآربه الشخصيّة أو لكسب المال اذ كان نظيف اليدين ولم يَبْنِ قصورا ولم يمتلك حتى محلا للسكنى وتلك وضعية قَلَّمَا نجد مثلها في العالم ولم تكن السلطة لديه مطيّة الى الثراء وقد عزّت مثل هذه الشمائل اليوم ونادرا ما يتحلى بها رجال السياسة في الوقت الحاضر الذي غدت فيه السلطة وسيلة للثراء وصار المال طريقا الى السلطة كما ظهر المال السياسي وبقطع النظر عن هذه الخصال التي ميزت رئيس الدولة التونسية آنذاك فان غالبية شعوب العالم تحترم زُعَمَائِها وتحافظ على ذكراهم.
وفي اعتقادنا انه من باب الوفاء لهذا الرجل مزيد تعريف الأجيال الصاعدة بنضاله المستميت من أجل استقلال البلاد والمكاسب الجمّة التي تحققت في عهده وأن ذلك ليس بكثير على رجل نذر حياته لخدمة بلاده سواء في مرحلة الكفاح الوطني او في معركة التنمية والنهوض الاجتماعي.
لقد عاد اسم بورقيبة بقوة ابّان ثورة 14 جانفي ورجع اليه بريقه بعد محاولات طمسه وان من ابسط مبادئ العرفان بالجميل لهذا الرجل إيلاؤه ما يستحقه من تبجيل وتكريم واللذين مازالوا ينتقدونه بل ذهب البعض حتى الى ذمه وشتمه وهو في ديار الخلد لم يقوموا ولو بمقدار ذرّة من الأعمال والتّضْحِيات مثلما بذله من جهود سخيّة من أجل تونس، ولا نعتقد أنّ "وطنيّتهم" للبلاد أكثر وأقوى من وطنيّة الزّعيم الرّاحل التي لا يشكّ أي عاقل نزيه فيها، ولم تكن هذه الفئة من الأشخاص لتذم الرجل " لو لم يكن منهم أَجَلَّ وأعْضَمَا ".
والمتابع للمشهد السياسي الوطني اليوم نلاحظ بروز ظاهرة الانتساب إلى ما أصبح يعرف "بالإرث البورقيبي" ويمكن تقسيم هذا التوجه الى صنفين:
أولهما مجموعة من الأشخاص الصادقين المتشبعين فعلا بالفكر البورقيبي يوجد بينهم من عمل تحت قيادته وظلوا أوفياء له ومتعلقين بمبادئه على الدوام، بالإضافة الى العديد من المواطنين الاخرين اللذين آمنوا بالفكر البورقيبي.
اما الصنف الثاني فيُمَثِلُ فئة من السياسيين الجدد اللذين كانوا بالأمس القريب يشككون في نضالات بورقيبة ويحاولون اليوم الركوب على الشرعية وضمان الحضور في المشهد السياسي وكسب الأنصار وجلب " الحرفاء السياسيين " بشتى الطرق والوسائل وذلك من خلال استغلال اسم بورقية وتوظيف ارثه السياسي والحضاري وكَأنّ البورقيبية غدت "علامة تروّجُ في سوق السياسة" ولا نخال ان المواطن التونسي الواعي والمتبصّر تنطلي عليه مثل هذه الأساليب التي لا ينخدع بها الاّ المغفلون.
ولَعَلَّ أفضل ما نختم به هذه الخواطر التي أوحت لنا بها الذكرى السادسة عشر لوفاة الحبيب بورقيبة تلك الآية الكريمة التي كثيرا ما كان يردّدها في العديد من خطبه: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكَثُ فِي الأَرْضِ" صدق الله العظيم وتغمّد الزعيم الراحل برحمته الواسعة.