vendredi 7 novembre 2014

" التغوّل " السياسي حقيقة أم مناورة سياسية؟


*بقلم الأستاذ عبد الله الأحمدي

 

 

ارتفعت في المدة الأخيرة أصوات بعض الأطرافالسياسية معبّرة عن خشيتها مما أسمته بـ"تغوّل" الأغلبية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة ومن سينجح في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى يوم 23 نوفمبر الجاري؟

نلاحظ في البداية أنه من الناحية اللغوية أن كلمة التغول مشتقة من الغُول الذي له معان عديدة إذ يقول ابن منظور في معجمه المعروف "لسان العرب" إن الغُول هو أحد الغيلان وهي جنس من الشياطين والجن، ويضيف أنالغُول يعني شيطانا يأكل الناس وكل من اغتال الإنسان،وتنطوي كلمة الغُول أيضا على الخبث والتسلط، إذ أنالغُول يعني أيضا الداهية. وجاء في لسان العرب أيضاأن رسول الله قال "لا عدوى ولا هامة ولا صَفرَ ولا غُول ".

أما التغوّل فهو يعني لغة التلوّن تلونا في صور شتى.

على انه من الناحية السياسية فإن المقصود من التغول هو الهيمنة والاستئثار بالحكم والانفراد به.

ويجب أن نضع استعمال مصطلح التغول هذه الأيام في إطاره السياسي، ذلك أنه بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة عبرت بعض الأطرافالسياسية عن تخوفها من " تغّول " من فاز فيها بحصولهم على أغلبية هامة في مجلس نواب الشعب، ويطرح هذا التخويف من "التغول" جملة من تساؤلات،أولها لماذا ظهر الشعور بالخوف في هذا الوقت بالذات،أي قبيل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة؟ ولماذا لم يقع التخويف سابقا من الأغلبية التي كانت ماسكة بزمام الحكم بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011؟ كما أنه ظهرت أيضا الدعوة إلى مرشح "توافقي" لمنصب رئيس الجمهورية لتفادي "التغوّل" المحتمل ؟ وهي دعوة ترمي إلى تحقيق أغراض معينة لا تخفى على أحد.

 

لا مبرّر للخوف من "التغوّل"

 

إن الخوف الذي أبدته بعض الأطراف من تغوّل الأغلبيةليس له أيّ مبرر لعدّة أسباب منها انه لم يحصل أيّ حزب على أغلبيّة مطلقة في انتخابات مجلس نواب الشّعب، ومن ناحية أخرى فإن الدستور تضمّن العديد من الآليّات "والفرامل" التي من شأنها أن تكبح جماح بعض الأجهزةالسياسية في الدولة وتحول دون هيمنة أية سلطة على الأخرى.

لقد أقرّ الدستور في التوطئة مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها مجسما بذلك أهمّ ركائز النظام السياسي الديمقراطي التي نادى بها كبار المفكرين مثل JOHN LOCKE و JEAN BODIN  وخاصة MONTESQUIEUالذي قال في كتابه المعروف "روح القوانين" : " كل إنسانبيده السلطة يميل إلى التعسف فيها إلى أن تعترضه حدود ولكي لا يقع التعسف في السلطة يتعين بحكم طبيعة الأشياء أن توقف السلطة السلطة ".

ولا شكّ أن فصل السلطات يحول دون هيمنة إحداها على الأخرى، مما لا يبقى معه مجال للحديث عن "تغوّل" السلطة التنفيذية أو التشريعية.

 

رئيس الجمهورية المنتخب لا يستطيع أن يكون "متغوّلا" 

 

لقد ضبط الدستور الجديد بكل دقة صلاحيات رئيس الجمهورية وهو يؤدي القسم قبل مباشرته لمهامه ويلتزم باحترام دستور البلاد وتشريعها طبق ما جاء بالفصل 76 من الدستور.

وليس للرئيس صلاحيات مطلقة بل إنها محصورة ومحدودة وتم ضبطها بالفصول من 77 إلى 82 من الدستور ولا يمكنه ممارسة غيرها، ومن مظاهر حدود تلك الصلاحيات أنه لا يمكنه حل مجلس نواب الشعب إلا في حالات معيّنة وبشروط مضبوطة خلافا لصلاحيات رئيس الجمهورية في فرنسا الذي خوّل له الدستور حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) في أي وقت وبدون أيّ شرط وذلك بالفصل 12 من الدستور الفرنسي بعد استشارة الوزير الأول ورئيسي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وقد تمت ممارسة هذه الصلاحيات الهامة في فرنسا أربع مرات عام 1962 و 1968 و 1981 و 1988.

على أن صلاحيات رئيس الجمهورية في دستورنا اقل من صلاحيات رؤساء الجمهوريات في بلدان أخرى ومنها فرنسا رغم أنه يستمد شرعيته مباشرة من الشعب، إذ انه منتخب انتخابا حرا مباشرا طبق الفصل 75 من الدستور، وكان من المفروض أن تكون له أكثر صلاحيات.

ومن ناحية أخرى فانه رغم أن الشعب هو الذي ينتخب رئيس الدولة ولمدة خمس سنوات فانه يمكن إعفاؤه قبل انقضاء تلك المدة طبق الفصل 88 من الدستور الذي خول لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب ولا يتم الإعفاء إلابموافقة ثلثي أعضاء المجلس ثم تتم الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية ثلثي أعضائها ولها أنتقضي بعزله. 

وبناء على ما تقدم فانه فلا شيء يدعو إلى التخويف من "تغوّل" الرئيس خلافا لما يزعمه البعض.

 

نفوذ مجلس نواب الشعب ليس مطلقا

 

لئن كان مجلس نواب الشعب يمثل الشعب بحكم قواعد الديمقراطية النيابية فان نفوذه رغم ذلك ليس مطلقا.حيث لا يمكنه أن يصادق على أي مشروع قانون مخالف للدستور لان النواب ملزمون باحترام أحكامه إذ أنهميؤدون القسم طبق الفصل 52 من الدستور، ذلك أنالمحكمة الدستورية التي تم إحداثها بمقتضى الفصل 118 من الدستور تتولى مراقبة دستورية مشاريع القوانين مما يحول دون مصادقة المجلس على مشاريع قوانين مخالفة للدستور، كما يمكن للمحكمة الدستورية النظر في الدفع بعدم دستورية القوانين عندما يتمسك احد المتقاضين بذلك أمام المحاكم. ويتبين مما تقدم انه رغم شرعية مجلس نواب الشعب والتي لا يمكن لأحد أن ينازع فيها فان عمل هذا المجلس مقيّد بالدستور مما يحول أيضا دون "التغول".

 

الرقابة على عمل الحكومة

 

من المعلوم أن الحكومة تنبثق من مجلس نواب الشعب فهو الذي يمنحها الثقة وله أيضا سحبها منها بمقتضى لائحة لوم بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس طبق الفصل 97 من الدستور. و يجوز أيضا للمجلس سحب الثقة من أحد أعضاء الحكومة وهي مسؤولة أمامه وفي نطاق مراقبة عمل الحكومة يمكن لأيّ نائب أن يتقدم إلىالحكومة بأسئلة كتابية أو شفاهية طبق الفصل 96 من الدستور، وبذلك فإن الحكومة تخضع لرقابة مجلس نواب الشعب مما يحول أيضا دون تجاوز صلاحيتها أو"تغوّلها"، ولا شك أن رئيس الحكومة يتمتع بصلاحيات كبيرة لعلها أهم من صلاحيات رئيس الجمهورية في بعض المهام فهو يحدث ويعدّل ويحذف الوزارات ويقيل أعضاء الحكومة ويضبط السياسة العامة للبلاد الأمرالذي يخشى معه حدوث نزاعات بينه وبين رئيس الجمهورية، وفي هذه الصورة تبت المحكمة الدستورية فيها طبق الفصل 101 من الدستور.

 

الحديث عن "تغوّل" الأغلبية نكران للديمقراطية

 

أجمع جهابذة أساتذة العلوم السياسية والقانون الدستوري أن في الأنظمة الديمقراطية تتولى الأغلبيةالتي أفرزتها الانتخابات التشريعية تكوين الحكومة، وقد كرّس الفصل 89 هذا المبدأ، إذ ينص على أنّ رئيس الجمهورية يكلف مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي على اكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب لتولي تكوين الحكومة، مما يجعل ممارسة الأغلبية للحكم تكريسا ومظهرا من مظاهر الديمقراطية وان التثريب على الأغلبية ممارسة حقها في تسيير شؤون البلاد يتجافى مع مبادئ الديمقراطية.

ولا شك أن في العديد من الدول العريقة في الديمقراطية تجرى انتخابات تشريعية وأخرى رئاسية فتحصل أغلبيةبرلمانية والمتمثلة في مجموع النواب وأغلبية رئاسية تكمن في القوى السياسية التي تنتخب رئيس الجمهورية، وفي جل الحالات يحصل أن تكون الأغلبية البرلمانية هي نفسها الأغلبية الرئاسية، وفي هذه الصورة يتمتع رئيس الجمهورية بتأييد الأغلبية البرلمانية عندما تنبثق عن الحزب الذي ينتمي إليه وهذا ما وقع في العديد من الدول التي تنتسب إلى الديمقراطيات الكبرى مثل ألمانياواسبانيا وغيرها من الدول التي تبنت الأنظمة البرلمانية أين تكون للسلطة التنفيذية أغلبية مطلقة في البرلمان،وهذه الوضعية إن حدثت في تونس فإنها لن تكون بدعة بل هي ظاهرة موجودة منذ القدم. ونذكر على سبيل المثال أن في فرنسا عادة ما يكون رئيس الجمهورية ينتمي إلىالحزب الذي له الأغلبية المطلقة في البرلمان مثلما هو الشأن الآن باستثناء بعض الحالات الخاصة عندما يفقد رئيس الجمهورية الأغلبية البرلمانية فينقلب دوره إلى مجرد حكم وأطلق على هذه الوضعية "التعايش" (cohabitation) وقد حدث ذلك في فرنسا عام 1986 و 1993 .

وتأسيسا على ما تقدم، فانه حتى إذا كان رئيس الجمهورية يحظى بتأييد الأغلبية البرلمانية إذا كانت تنتمي إلى حزبه فإن ذلك لا يتعارض مع الديمقراطية بل ربما يسهل عمل الحكومة، ولا يمكن الحديث في هذه الصورة عن "التغول" مادام الشعب هو الذي انتخب نوابه بالمجلس وكذلك رئيس الجمهورية وهو صاحب السيادة،مما يجعل الحديث عن "التغوّل" في غير طريقه، إذ كل ما هو شرعي لا يشكل "تغوّلا".

على أن ممارسة الأغلبية للحكم لا يعني اضطهاد الأقلية أو المعارضة التي لها أن تمارس حقوقها السياسية. وقد نص الفصل 60 من الدستور على أن المعارضة مكوّن أساسي في مجلس نواب الشعب لها حقوقها التي تمكّنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي.

ويمكن القول في الختام إن التخوّف الذي أبدته بعض الأصوات من "التغوّل" هو تخوّف مفتعل باعتبار أنأحكام الدستور تحول دون حصول هيمنة أية سلطة على الأخرى ولعلّ التعبير على هذا الشعور في هذا الوقت بالذات من قبيل المناورة السياسية أكثر منه تخوف حقيقي أو مبرّر.

 

* دكتور دولة ومبرز في الحقوق