samedi 21 janvier 2017

جريمة الاغتصاب وحماية ضحاياه




جريمة الاغتصاب وحماية ضحاياه
                                                 * بقلم الدكتور عبد الله الاحمدي

هزّت أخيرا حادثة مواقعة فتاة قاصرة بولاية الكاف وصدور إذن قضائي بتزويجها من مرتكب الجريمة، الرأي العام في تونس وتعالت عدّة أصوات مستنكرة هذه الواقعة وخاصّة تمكين المتّهم من التزوّج بالمتضررة، مما دعانا الى تسليط بعض الأضواء على هذا الموضوع خاصّة من الناحية القانونيّة والوقوف على بعض النقائص التي شابت تشريعنا الحالي المتعلق بجانب من الجرائم الجنسية وخاصة الاغتصاب.
يتجه التذكير بانه مضى على صدور المجلة الجنائية الجاري بها العمل الان أكثر من قرن اذ انها صدرت بمقتضى الامر العَلي المُؤرخ في 9 جويلية 1913 ودخلت حَيّز التنفيذ في غرة جانفي 1914 ولم تتعرض في صيغتها الأولى الاصلية لجريمة الاغتصاب ولم تسلط أي عقاب على مرتكبيها وبقيت هذه الجريمة غير معاقب عليها رِدْحًا من الزمن يناهز نصف قرن ضرورة أنّ الفصلين 227 و228 القديمين كانا ينصان في صيغتهما الأولى على جريمة الاعتداء بالفاحشة على ذكر او انثى بدون عنف او بدون رضا وبقيت جريمة الاغتصاب غير مجرّمة حتى بعد الاستقلال اذ انه لم يقع التنصيص عليها وعلى معاقبة مرتكبيها الا بمقتضى القانون عدد 15 المؤرخ في 4 مارس 1958 وبموجب هذا التنقيح أُعيدت صياغة الفصل 227 واضيف الفصل 227 مكرر من المجلة التي أدخلت عليها أيضا تنقيحات أخرى شملت فُصولاً عديدة لها علاقة بالجرائم الجنسية بلغت ستة تنقيحات وكان أوّلها تمّ في 26 ماي 1949 وآخرها القانون عدد 73 الصادر في 2 اوت 2004 
وبالنسبة للفصل 227 الذي يهمّنا في هذا المقال نلاحظ انه تمّ تنقيحه بموجب قانون 4 مارس 1958 وهو مأخوذ حرفيّا تقريبا من الفصل 332 من المجلة الجنائية الفرنسية القديمة الملغاة المنقّح بقانون 28 افريل 1832 عِلمًا بأن هذه المجلة صدرت عام 1810.
وكان الفصل 227 القديم من المجلة الجنائية ينصّ في صيغته التي جاء بها قانون 4 مارس 1958 على تسليط عقاب بعشرة أعوام اشغال شاقة على كل من واقع أنثى بدون رضاها وإذا كان عمر المجني عليها دون الخامسة عشرة كاملة فالعقاب يكون بالأشغال الشاقة لمدة عشرين سنة.
وبموجب القانون عدد 9 المؤرخ في 7 مارس 1985 وكذلك القانون عدد 23 الصادر في 27 فيفري 1989 تم تنقيح هذا الفصل وأصبح يتضمن عقوبات شديدة تُسلّط على مرتكب جريمة مواقعة انثى بدون رضاها أي الاغتصاب عِلمًا بأن المشرّع التونسي لم يستعمل هذا المصطلح بل فضّل استعمال عبارة المواقعة خلافا للعديد من التشريعات العربية التي تضمنت مصطلح الاغتصاب، والملاحظ أن التّنقيح الذي جاء به قانون 7 مارس 1985 كان على إثر إغتصاب سائحة أجنبية بإحدى مناطق البلاد.
  • تحليل مضمون الفصل 227 الحالي من المجلة الجزائية
بالتمعّن في هذا الفصل نلاحظ انه إشتمل في الحقيقة على ثلاث حالات للاغتصاب:
الصورة الأولى تتعلق بمواقعة أنثى باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به، وفي هذه الحالة يكون العقاب بالإعدام بقطع النظر عن سن المجني عليها.
الصورة الثانية تتمثل في مواقعة أنثى سنّها دون العشرة أعوام ولو بدون استعمال العنف او السلاح او التهديد به ويكون العقاب في هذه الحالة أيضا الإعدام.
الصورة الثالثة وهي مواقعة أنثى بدون رضاها ودون إستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به ويكون العقاب بالسجن بقيّة العمر.
والمُلاحظ أن المشرّع إعتبر أن الرضا منعدم إذا كان سن المجني عليها أقل من ثلاثة عشر عاما ومعنى ذلك ان المواقعة التي تتم في مثل هذه الحالة تُعدّ قانونا إغتصابًا حتى ولو لم يَستعمل الجاني أية وسيلة من وسائل الاكراه سواء كان ماديا أو معنويا.
وبناءا على ذلك نلاحظ أن المُشرّع لم يتوخ سياسة التدرّج في العقاب في جريمة الاغتصاب اذ اقتصر على إقرار عقابين فقط أولهما الإعدام وثانيهما السجن بقية العمر ولم يأخذ بعين الاعتبار لظروف أخرى مُشدّدة خلافا لما هو مُقرّر في العديد من التشريعات الأجنبية التي اتّبعت منهج التدرّج في العقوبات حسب بعض ظروف ارتكاب الجريمة من ذلك أنّ التشريع الفرنسي أقر ثلاثة عشر ظرف تشديد في جريمة الاغتصاب تستوجب الترفيع في مدة العقاب بالسجن منها اذا كان الاغتصاب مصحوبا أو مشفوعا بالتعذيب أو أعمال وَحشيّة أو اذا نتج عن الإغتصاب عجز بدني دائم كما ان جُلّ التّشريعات العَربيّة أقرّت عددًا هامًا من ظرف التشديد ولا يسمح المقام بتعدادها.
  • تحليل احكام الفصل 227 مكرر من المجلة الجزائية
نلاحظ ان الفصل 227 مكرر القديم من المجلة الجنائية الذي تم تنقيحه بموجب قانون 4 مارس 1958 كان ينصّ على ان كل من واقع أنثى بدون عنف سنّها دون خمسة عشر عاما كاملة يعاقب بخمسة أعوام اشغال شاقة.
وهذا الفصل هو أيضا نقل حرفي تقريبا للفقرة الثانية من الفصل 332 من المجلة الجنائية الفرنسية القديمة في صيغته الواردة بقانون 28 افريل 1832 والذي كان يُقرّ نفس العقاب في صورة اغتصاب انثى سنّها أقل من خمسة عشر سنة.
غير أنه وقع تنقيح الفصل 227 مكرر بموجب قانون 4 مارس 1958 وأصبح ينص في صيغته الحالية على ما يلي: "يعاقب بالسجن مدة ستة أعوام كل من واقع انثى بدون عنف سنّها دون خمسة عشر عاما كاملة وإذا كان سن المجني عليها فوق الخمسة عشر عاما ودون العشرين سنة كاملة فالعقاب يكون بالسجن مدة خمسة أعوام والمحاولة موجبة للعقاب وزواج الفاعل بالمجني عليها في الصورتين المذكورتين يوقف التتبعات او اثار المحاكمة ... الى آخره".
  • نظرة نقدية في أحكام الفصل 227 مكرر من المجلة الجزائية
إن الصيغة التي وردت فيها أحكام هذا الفصل غير مرضية فالفقرة الأولى منه إعتبرت أن مواقعة أنثى بدون عنف سنها أقل من خمسة عشر عاما جناية ما دام العقاب المستوجب تجاوز الخمس سنوات.
على أن الاشكال لا يَكْمُن في وصف الجريمة بل في الصيغة التي إستعملها المشرّع في هذه الفقرة عندما تحدّث عن المواقعة بدون عنف ولم يتعرض لتوفر الرضا من عدمه وكأنه يعتبر إنعدام إستعمال العنف المادي يعني حصول رضا المعتدى عليها وهذا غير صحيح إذ يمكن أن تتم المواقعة بدون إستعمال العنف البدني أو أي مظهر اخر من مظاهر القوّة المادية ورغم ذلك قد يكون الرضا مفقودا اذ ان الاكراه الذي ينفي الرضا لا يكون دائما نتيجة لاستعمال العنف المادي او بالأحرى البدني اذ قد يكون الاكراه معنويا وناتجا عن ظروف خاصة كأن تكون للجاني سلطة أدبية على المجني عليها او سلّط عليها ضغوطا او اكراها معنويا دون استعمال العنف وقد اكدت محكمة التعقيب في قرارها المبدئي عدد 29942 المؤرخ في 03/05/2008 "ان مفهوم انعدام الرضا ينصرف الى مستوى مادي يحمل الى العنف والتهديد وما شابه ذلك ومستوى معنوي ينصرف الى معنى الاكراه المعنوي ولعلّ ما كان في مستواه المعنوي أكثر وقعا وأعظم أثرا وينتهي بالضرورة بذهاب معنى الرضا وان الرضا ان يقبل الطرف راغبا لا مُكرها مُستحسنا لا مُرغَما ... واعتبار الرضا منعدما في حالة الضغط النفسي والاكراه المعنوي الذي يجعل المجني عليه في وضعية لا يقدر على دفعها " وبذلك فان الفعلة التي تقع تحت طائلة الفقرة الاولى من الفصل 227 مكرر يمكن أن تشكل جناية الاغتصاب اذا تمت المواقعة بدون عنف لكن بدون رضا المجني عليها.
وتجدر الإشارة الى ان مدلول العنف في هذا الفصل يعني بداهة العنف البدني المنصوص عليه في عدة فصول أخرى من المجلة الجزائية مثل الفصلين 118 و119.
ويُؤخذ مما تقدّم انه لا شيء يبرر الحط من العقاب في صورة مواقعة انثى بدون عنف الى ستة أعوام رغم انه حتى في هذه الصورة يمكن أن تتوفر جريمة المواقعة بدون رضا ولا فرق في نظرنا بين الصورة الواردة بالفقرة الثانية من الفصل 227 من المجلة الجزائية التي تقرّ عقوبة السجن بقية الحياة على كل من واقع انثى بدون رضاها حتى في صورة عدم استعمال العنف وبين الصورة الواردة بالفقرة الأولى من الفصل 227 مكرر التي تقرّ عقابا بالسجن مدة ستة أعوام فقط والحال أنّ الفعلة واحدة !! بل قد تكون أبشع نظرا لسن المتضررة الذي يكون اقل من 15 سنة.
وفي إعتقادنا أنّ أحكام الفقرة الأولى من الفصل 227 مكرر تتعارض مع مضمون الفقرة الثانية من الفصل 227 اذ ان المواقعة في الحالتين متشابهة نظرا الى انه يمكن ان ينعدم الرضا في الحالتين رغم عدم استعمال العنف في الحالة الثانية.
 أمّا المأخذ الثاني على احكام الفصل 227 مكرر فانه يكمن في كونها انها تضمنت ان زواج الفاعل بالمجني عليها في الصورتين المذكورتين يوقف التتبعات او آثار المحاكمة.
فاذا كان عمر المجني عليها أكثر من خمسة عشر سنة ودون العشرين فان تزويجها بالجاني وإيقاف التتبعات واثار المحاكمة يصبح مستساغا نسبيا خاصة ان في هذه الصورة تتم المواقعة بالرضا وقد لا يكون الامر كذلك إذا كان عمر المتضررة دون الخامسة عشر مما يجعل تزويجها في ذلك السن غير وجيه إذ انه حتى في صورة توفر الرضا في هذه الحالة فانه يكون الرضا معيبا بحكم صغر سن المتضررة
  • الاذن بالتزويج هو خطأ المشرع وليس ذنب القاضي الذي أصدره
كان الاذن القاضي بتزويج البنت ضحية جريمة المواقعة محل انتقاد جانب هام من الراي العام وبعض المنظمات المهتمة بحماية الطفولة والمرأة ولئن نتفهم الصدمة التي انتابت شرائح عديدة من المجتمع التونسي نظرا لكون عمر المتضررة دون الخمسة عشر عاما فانه يجب التذكير بان القانون هو الذي أجاز هذا الاجراء واقتصر دور القاضي الذي أصدر هذا الاذن على تطبيق نص قانوني واضح فالفقرة قبل الأخيرة من الفصل 227 مكرر نصّت صراحة على ان زواج الفاعل بالمجني عليها في الصورتين المذكورتين يوقف التتبعات واثار المحاكمة وليس من العدل انتقاد القاضي الذي اصدر ذلك الاذن بالتزويج لأنه لم يخرق القانون بل طبّقه تطبيقا سليما خاصة اذا ثبت ان المواقعة تمت بالرضا وكان من المفروض النظر الى هذا الموضوع بكل اعتدال وتجرّد وبدون تحامل وان نضع الأمور في اطارها الصحيح اذ لا لوْم على القضاة اذا طبقوا القانون فتلك هي وظيفتهم فهم أفواه القانون ينطقون به وفي هذا السياق يقول رجل القانون والسياسة وزير العدل الفرنسي الاسبق الأستاذ Robert BADINTER "إنّ القاضي ليس مُشرّعا وعليه تطبيق القانون وليس له ان يَسُنًّه أو حتّى تأويله". 
والرأي عندنا ان المشرع الذي سنّ هذا الفصل وسمح بإمكانية تزويج مرتكب الجريمة بالضحية الصبية الضعيفة وعدم معاقبته إذا تمّ الزواج قد أخطأ في حق ضحايا الاغتصاب وخاصة القاصرات اللاتي مازلنا في سن الطفولة البريئة ولم يبلغن سن الزواج الذي لا يقل عن ثمانية عشر سنة طبق الفصل 5 من مجلة الأحوال الشخصية ولا يمكن إعطاء اذن بالزواج إذا كان عمر البنت دون ذلك الا لأسباب خطيرة وللمصلحة الواضحة للزوجين.
ومهما يكن من أمر فإنّ التزوّج بالمتضررة في صورة المواقعة بدون رضا مهما كان عمر المجني عليها وإيقاف المحاكمة غير ممكن وسبق لمحكمة التعقيب أن أكدت في قرارها عدد 14742 المؤرخ في 26 فيفري 1986 أن زواج المتهم بالمعتدى عليها في جريمة المواقعة لا يوقف التتبع في صورة الغصب.
ويبدو ان الاذن القاضي بتزويج البنت موضوع القضية بالمحكمة الابتدائية بالكاف اعتمد على جملة من العناصر حسب ما جاء في البلاغ الصادر عن نقابة القضاة منها الحالة الصحية للبنت "وقدرتها على الزواج والولادة وان سن المتضررة ناهز الرابعة عشر عاما وعلاقة المصاهرة بين العائلتين وكون البنت حاملا وان المواقعة كانت بالرضا وليست غصبا" حسب ما جاء في بلاغ نقابة القضاة التي عبّرت عن مساندتها لمن أصدر الاذن بالتزويج الذي اعتمد فيه القاضي أيضا على الفصلين 5 و6 من مجلة الأحوال الشخصية.
وعلى صعيد آخر فانه يجب الاّ تغيب عن الاذهان الوضعيّة الاجتماعيّة والإنسانيّة للمجني عليها وخاصة للجنين باعتبار ان البنت حاملاً وان يقع التفكير في مصلحتهما فأيّ ذنب ارتكبه الجنين حتى يُحرم من الأبوة والنسب وما هو مصير المتضررة أيضا في صورة عدم زواجها بعد تعرضها للاغتصاب؟ 
ويتجه من ناحية اخرى التأكيد على ضرورة تحديد السن الأدنى للزواج اذ ان المشرع ولئن أجاز تزويج البنت إذا لم تبلغ سن الثمانية عشر سنة في ظروف خاصة فانه لم يحدّد السن الأدنى الذي لا يمكن دونه التزويج مهما كانت الظروف وكانت النصوص القانونية القديمة تتحدث عن بلوغ الحلم ولا تضبط المسألة بالعمر.
وكان يجب الأخذ بعين الاعتبار لهذه المعطيات وأن تكون هذه القضية فرصة لدعوة المشرّع الى تدارك الثغرات في القانون وأن يأخذ بعين الاعتبار لجملة من العناصر ذات الصبغة الاجتماعية
  • ضرورة مراجعة وتنقيح الفصول المتعلقة بالجرائم الجنسية
ان النصوص القانونية الحالية المتعلقة بالجرائم المنافية للأخلاق وبصفة عامة الجنسية منها في حاجة الى المراجعة الجذرية اذ ان تلك النصوص تشوبها نقائص واخلالات وتنافر بينها كما انها لا تحمي الكرامة والشرف والحرمة الجسدية حماية كافية وهي لم تعد مواكبة لمقتضيات تطور التشريعات الحديثة السائدة في العديد من الدول المتقدمة.
وهناك مآخذ هامة على النصوص والآليات الواردة بالمجلة الجزائية ومن بين المآخذ مسألة تمكين مرتكبي جريمة المواقعة من التفصي من العقاب بتزويجهم ضحاياهم مثل ما نص عليها الفصل 227 مكرر الذي يمكن الجاني من الانتفاع بهذا الاجراء حتى اذا كان عمر المتضررة أقل من خمسة عشر سنة وفوق الثلاثة عشر اذا تمت المواقعة بدون عنف وهذه الصورة لا تعني بالضرورة توفر الرضا كما أسلفنا في حين ان هذا الاجراء أي التزوّج في صورة ارتكاب جريمة المواقعة او الاغتصاب غير معمول به في القوانين الأجنبية العصرية مثل القانون الفرنسي سواء في المجلة الجنائية القديمة او الجديدة و كذلك الشأن في التقنينات العربية التي لم تنص على إمكانية تزويج الجاني بالمجني عليها وعدم معاقبته على غرار القانون المغربي والجزائري والمصري وكاد أن ينفرد القانون التونسي بهذا الاجراء والذي يُمكّن الجُناة من التفصّي من العقاب في جرائم المواقعة بمجرد التزوّج بالمجني عليها ولو كانت قاصرة وهو اجراء يجعل المتهم ينتفع بإقترافه للجريمة فينقلب من مجرم الى عريس فضلا على ان هذا التّزويج قد يُشجّع هذا الصنف من المنحرفين الجنسيين على ارتكاب الاعتداءات الجنسية على القاصرات للظفر بالتزوج بهنّ اذا استحال عليهم ذلك في ظروف عادية وقد يستعملون في سبيل ذلك مختلف ضروب التغرير والاغراءات والخزعبلات التي تنطلي بسهولة على بعض الفتيات القاصرات اللاتي لم يبلغن مرحلة النضج الفكري وملكة التعقل والفطنة واكتشاف النوايا الحقيقية لمن يراودهن
وذهب مُشرّعنا الى أكثر من ذلك عندما مكّن الفصل 239 من المجلة الجزائية الشخص الذي يفر ببنت من التزوج بها وعدم تتبعه وعدم تنفيذ العقاب عليه، والتّزويج في مثل هذه الصورة له انعكاسات وتداعيات خطرة اذ من شان ذلك ان يشجّع بعض الأشخاص على اختطاف البنات القاصرات والفِرار بهن ثم يضعون الاولياء أمام الامر المقضي فتصبح جريمة الاختطاف والفرار طريقا للتزوج فتكون عاقبة الجريمة الزفاف عِوض السّجن.
ومعلوم ان الفصل 239 من المجلة الجزائية الحالية مأخوذ من القانون الفرنسي وبالتحديد من الفصل 356 من المجلة الجزائية الفرنسية القديمة الملغاة والصادرة عام 1810 الا ان المشرع الفرنسي تخلى عن فكرة التزويج بالقاصرات اللاتي يتم اختطافهنّ والفرار بهنّ في المجلة الجنائية الجديدة التي دخلت حيّز التنفيذ في غرة مارس 1994 غير ان بعض التشريعات العربية مازالت تنص على إمكانية التزويج بالقاصرات اللاتي يكنّ ضحية اختطاف او الفرار بهنّ مقابل إيقاف محاكمة الجناة وهذا ما نجده في القانون المغربي الجزائي بالمادة 475 والفصل 326 من قانون العقوبات الجزائري والتي نصت على انه في صورة زواج الجاني بالقاصرة المخطوفة فانه لا يقع التتبع الا بناءا على شكاية من قبل الأشخاص اللذين لهم الصفة في طلب ابطال الزواج ولا تجوز المحاكمة الجزائية الا في صورة الحكم بإبطال الزواج.
وفي إعتقادنا أنه يجب حذف الفصل 239 من المجلة الجزائية الحالي.
وما دمنا نتحدث عن جريمة الاغتصاب هناك أفعال أخرى إجرامية لا تقل بشاعة عن هذه الجريمة البشعة وهي جريمة الاعتداء بالفاحشة على المرأة والتي تختلف عن الاغتصاب وأقر لها المشرع عقابا أخف بكثير من العقاب المستوجب في جريمة الاغتصاب خاصة ان فقه القضاء التونسي استقر على إعطاء مفهوما ضيقا للمواقعة منذ صدور القرار التعقيبي عن الدوائر المجتمعة بتاريخ 16 جوان 1969 في القضية عدد 6417 والذي ميّز بين الفاحشة والمواقعة فعرف الأولى بكونها كل فعل مناف للحياء يقع قصدا ومباشرة على جسم الذكر والانثى او على عورتهما وعرّف المواقعة بكونها تستلزم الوطء بالمكان الطبيعي من الانثى وبطريق الايلاج، ونتيجة لهذا الاتجاه الذي دأب عليه فقه القضاء فانه اذا وقع الاعتداء على امرأة بفعل الفاحشة بدون رضاها مع استعمال العنف مثل اتيانها من غير المكان الطبيعي فان ذلك لا يعتبر قانونا اغتصابا ولا يكون موجبا الا لعقاب بالسجن مدة ستة أعوام ويرفع العقاب الى اثني عشر عاما اذا كان عمر المتضررة دون 18 عاما وهذه الوضعية ناتجة عن مفهوم ضيق للركن المادي لجريمة الاغتصاب وهو اتجاه غير سليم لعدة اعتبارات من أهمها ان الاعتداء بالفاحشة لا يقل فضاعة ووحشية وانتهاكا لحرمة وكرامة المرأة عن الاغتصاب ولعل هذا ما جعل المشرع الفرنسي يعطي للاغتصاب مفهوما واسعا بمقتضى القانون المؤرخ في 23 ديسمبر 1980 والذي عرّف الاغتصاب بكونه " ايلاج جنسي مهما كانت طبيعته يقع على ذات الغير بالعنف او الاكراه او المباغتة" وبذلك اصبح للركن المادي في الاغتصاب مفهوما واسعا يمكن ان يسلط على الانثى او الذكر بدون رضا اذ يكفي حصول ايلاج جنسي بالقوة او الاكراه والمُغْتَصِبْ في القانون الفرنسي قد يكون ذكرا او انثى كما ان المجني عليه في هذه الجريمة قد يكون أيضا ذكرا او انثى وبذلك فان ما يعتبره القانون التونسي اعتداء بالفاحشة اذا حصل ايلاج بغير المكان الطبيعي للأنثى بدون رضا يعتبره القانون الفرنسي اغتصابا موجبا للعقاب بالسجن يتراوح بين 15 سنة والسجن بقية الحياة ! (يراجع حول هذه المسائل كتابنا الجرائم الأخلاقية الطبعة الأولى 1998) 
وتأسيسا على ما تقدّم فإننا في حاجة الى مراجعة الأحكام القانونيّة المتعلقة بالجرائم الجنسيّة الواردة بالمجلة الجزائيّة التّي مضى على صدورها أكثر من قرن وهي في حاجة أكيدة وعاجلة لإلغائها وتعويضها بمجلة عصريّة تتّسم بروح الحداثة وتطور المجتمع وتكرّس القيم والحقوق وفي مقدمتها الكرامة كما حان الوقت لتغيير أسلوب تحرير الفصول القانونيّة فالمجلة الحاليّة أدركها الوهن والكبر فصارت قَلْعَمًا فنحن في حاجة الى ثورة تشريعيّة حداثيّة خاصة في المادة الجزائيّة.
*عبد الله الاحمدي أستاذ متميّز في القانون الخاص والعلوم الاجراميّة، له عدّة دراسات في مختلف فروع القانون
من مؤلفاته: كتاب حقوق الانسان والحريّات العامّة وكتاب الجرائم الأخلاقيّة.