jeudi 13 décembre 2012

اعتماد صيغة الفصل الأول من دستور 1959 في الدستور الجديد : الدلالات و الأبعاد



يعد ّ الفصل الأول من كل دستور بطاقة تعريف الدولة و هو الذي يحدد عادة هويتها من حيث طبيعتها و انتمائها و نظامها السياسي و كذلك اتجاهها التشريعي. و من هنا تأتي أهمية كيفية صياغته و قد تجلى ذلك في الجدل الواسع و التجاذبات الأخيرة بمناسبة انكباب المجلس الوطني التأسيسي على إعداد مشروع الدستور الجديد للبلاد. و كان من أهم المسائل المطروحة على بساط النقاش صياغة الفصل الأول منه و ظهرت اتجاهات متباينة حول هذا الموضوع الهام نظرا إلى انعكاساته المباشرة على طبيعة الحكم في الدولة و تشريعها و هذه المسألة على غاية من التشعب و الدقة اذ لها ارتباط بالدين و الدستور و بصفة عامة قضية  علاقة الدين بالسياسة و بالدولة و هو موضوع قديم متجدد له جذور متأتية من أحداث تاريخية قديمة معروفة برزت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم، و الصراع على الخلافة و التي اعتبرها الخليفة الثالث عثمان بن عفان" قميصا البسه الله إياه". و قد  تجلى الصراع  حولها في الفتنة الكبرى التي تعتبر حدثا كبيرا في التاريخ الإسلامي و تناولها الباحثون و المؤرخون  بالدراسة و التحليل و من أبرزهم و أكثرهم عمقا الأستاذ هشام جعيّط كما اهتم القدامى بمسالة الخلافة، مثل ابن خلدون في مقدّمته و عرّفها بكونها "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة إليها و أنها في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به" مضيفا قوله " ثم ذهبت معاني الخلافة و لم يبق إلا اسمها و صار الأمر ملكا بحتا و جرت طبيعة التغلب إلى غايتها و استعملت في أغراضها من القهر و التقلب في الشهوات و الملاذ". و من الواضح أن ابن خلدون يتحدّث عن الخلافة بعد عهد الخلفاء الراشدين ،و يرى بعضهم أن الخلفاء أصبحوا بعد تلك الفترة يمارسون ملكا عضوضا و جدّت أحداث أخرى أحيت الجدل بشأن هذا الموضوع في العالم  العربي الإسلامي منذ نهاية الربع الأول من القرن الماضي بعد أن أعلن أتاتورك في 3 مارس 1924 إلغاء الخلافة العثمانية و عقب ذلك صدور كتاب الشيخ الأزهري علي عبد الرازق "الإسلام و أصول الحكم، و كان ذلك عام 1925 وقد احدث هذا الكتاب ضجة كبيرة إذ نادى صاحبه بالفصل بين الدين و الدولة قائلا" إن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون" وقد خالفه الرأي و رد عليه بشدة بعض الشيوخ منهم محمد الخضر حسين الذي ألّف كتابا بعنوان"نقض كتاب الإسلام و أصول الحكم " و كذلك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في رسالته بعنوان "نقد علمي لكتاب الإسلام و أصول الحكم" في حين أيّده آخرون مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس و خالد محمد خالد في كتابه المعروف "من هنا نبدأ"  و ظهر ما سمي بالإسلام السياسي و الفقه السياسي نتيجة لبروز عدة حركات إسلامية منها الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي صاحب نظرية الحاكمية و مؤلف كتاب "نظرية الإسلام و هديه في السياسة و القانون        و الدستور" و التي تقوم على فكرة السيادة أو الحاكمية هي الله و دعا سيد قطب إلى اعتبار التشريع لله و السلطة للأمة، أي انتزاع حق التشريع من البشر و رده إلى الله وحده و لا يسمح المقام بالتوسع في هذه المواضيع المتشعبة و يكفي الرجوع إلى العديد من المراجع و المصادر للوقوف على تفاصيل و أسس هذه النظريات  و حسبنا في هذا المقال أن نحصر بحثنا في مسالة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 و الذي حصل وفاق على اعتماده في الدستور الجديد خاصة و قد قبلت حركة النهضة ذلك و لاقى هذا الموقف استحسان و ارتياح عدة شرائح من المجتمع التونسي و ازداد هذا الموضوع أهمية أخيرا بعد أن طالب نواب حركة النهضة بلجنة التوطئة و المبادئ الأساسية للدستور بإقرار علوية هذا الفصل في حين انه من المفروض إن جميع فصول الدستور متساوية و لا علوية لإحداها على الأخرى ، كما انه ظهر اتجاه يدعوا إلى اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي و الوحيد للتشريع وارتفعت عدة أصوات معارضة هذا التوجه و بقطع النظر عن الجدل حول هذا الموضوع فانه يتعين الوقوف على الجذور التاريخية للفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 و الظروف التي تمت فيها صياغته ثم النظر في دلالاته و أبعاده                           

الجذور التاريخية  للفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 و ظروف صياغته

لقد سبق هذا  الدستور ظهور مشاريع و نصوص تتعلق بالنظام السياسي للبلاد نذكر منها عهد الأمان الذي تضمن الإشارة في مقدمته إلى عزم  المشير محمد باي على "ترتيب مجالس ذات أركان للنظر في أحوال الجنايات  و شروعه في فصوله السياسية بما لا يصادم إنشاء الله القواعد الشرعية" على حد قوله،  ثم صدر أمر  في فيفري 1861 متعلق بحقوق الراعي و الرعية تضمن بالخصوص الحق في الأمن على النفس و المال و العرض لجميع المواطنين على اختلاف الأديان و المساواة بينهم و إحداث مجالس للجنايات و الأحكام العرفية ثم صدر دستور الدولة التونسية في 26 افريل 1861 عن محمد الصادق باي ضبط صلاحيات الملك و ترتيب الوزارات و مداخيل الدولة و تركيبة المجلس الأكبر و حقوق المواطنين، ثم صدرت  لائحة المبادئ العامة للدستور التونسي المؤرخة في 10 جوان 1949 و التي ناقشتها لجنة تابعة للحزب الحر الدستوري التونسي بمقر اللجنة بنهج القرمطو بتونس و نصت المادة 6 من هذه اللائحة على ان " دين الدولة الإسلام و تحترم الأديان الأخرى" و بعد إحراز تونس على استقلالها و انتخاب المجلس القومي التأسيسي انعقدت جلسة له في 14 افريل 1956 ترأسها السيد احمد بن صالح بصفته رئيس المجلس بالوكالة و وقع الشروع في مناقشة الفصل الأول من مشروع الدستور، و كان يشتمل على ثلاث مواد تنص الأولى على أن "تونس دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة" كما تنص المادة الثالثة على ان " الدولة التونسية تضمن حرية المعتقد  و تحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالنظام و تنافي الآداب "
  و كان من أوائل المتدخلين  عند مناقشة الفصل الأول من مشروع الدستور الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة و كان آنذاك رئيس الحكومة و اقترح صياغة جديدة للمادة الثالثة  من الفصل الأول على النحو التالي "الإسلام دين الدولة و العربية لغتها و هي تضمن حرية المعتقد و تحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون"
ثم دار نقاش مستفيض إذ اقترح بعض النواب التنصيص بالفصل الأول على أن تونس دولة عربية لكن نواب آخرين عارضوا فيه باعتبار أن التنصيص على أن لغة البلاد هي العربية كاف دون حاجة إلى التأكيد على أن تونس هي دولة عربية لان اللغة هي أساس القومية فضلا على ان تونس لم تكن آنذاك عضوا في جامعة الدول العربية و لاحظ بورقيبة انه "عندما نقول –العربية –هي لغة البلاد فان كل إنسان يعرف انتسابها للعروبة ". و لم يقع أي اعتراض على التنصيص على أن الإسلام هو دين الدولة التونسية اذ تمت المصادقة في آخر الأمر بالإجماع على الصيغة النهائية للمادة الأولى من الفصل الأول من مشروع الدستور على النحو التالي :"تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها و العربية لغتها "
و كانت أيضا للمرحوم الباهي الادغم مداخلة هامة عند مناقشة هذا الفصل و قدّم مشروع صيغة له لا تبتعد كثيرا عن الصيغة المقترحة من قبل الزعيم بورقيبة و لاحظ أن تعريف الدولة بكونها مسلمة أو إسلامية لا يصح، و فضّل التنصيص على أن دين الدولة الإسلام ملاحظا أن القول بان العربية هي لغتها يعني أن حضارتها و مدنيتها هي الحضارة المدنية العربية و تمت المصادقة بالإجماع في القراءة الثانية لمشروع الدستور خلال جلسة 2 فيفري 1959 على الفصل الأول من الدستور بنفس الصيغة كما وقعت تلاوة ثالثة لمشروع الدستور في جلسة 28 ماي 1959 في صيغة نهائية و أصبح الفصل الأول منه ينص على أن الإسلام هو دين الدولة و لغتها العربية و نظامها جمهوري"
إن الغاية من استعراض مختلف هذه المراحل في إعداد مشروع دستور غرة جوان 1959 هي أن الفصل الأول منه لم يثر أيّ جدل بين أعضاء المجلس القومي التأسيسي و لم يناد احد منهم بالتنصيص على تطبيق الشريعة الإسلامية أو اعتبارها المصدر الأساسي و الوحيد للتشريع و حصل إجماع على صيغة هذا الفصل، و لم يعترض عليه احد، و هذا دليل واضح على وجاهة و سلامة محتوى الفصل المذكور، و لم تطرأ ظروف جديدة تبرر اعتماد صيغة أخرى مخالفة له، فالشعب التونسي و لئن تطور اجتماعيا و ثقافيا فانه لم يغير هويته و مازال كعادته منذ قرون متمسكا بهويته العربية الإسلامية، كما انه من المبادئ المسلم بها أن في مادة وضع الدساتير أو سن القوانين العادية عدم تغيير النصوص القديمة إلا إذا تبين أنها أصبحت غير صالحة و لا تتماشى مع الظروف الراهنة، و ليس هذا شان الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 الذي جاء في صيغة واضحة منسجمة مع هوية البلاد و حضارتها العربية و الإسلامية فلا داعي إلى وضع صيغة جديدة خاصة و انه لم يثر أي أشكال و ليس له أي تأثير سلبي على التشريع التونسي.
و تجدر الإشارة إلى أن جل الدساتير العربية تضمنت تقريبا نفس صيغة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959، فيما يتعلق باعتبار الإسلام دين الدولة، مثل دستور دولة الإمارات العربية المتحدة (المادة 7) و الجزائر (المادة2) و المملكة العربية السعودية (المادة الأولى) و الكويت (المادة الأولى) و مصر(المادة 2) و المغرب (المادة 6) و موريتانيا (المادة5) التي تنص على أن الإسلام هو دين الشعب و الدولة.

أبعاد اعتماد صيغة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959  

إن صيغة هذا الفصل تطرح جملة من التساؤلات منها انه لم ينصّ على أن تونس هي دولة إسلامية بل تضمن فقط إن دينها الإسلام  خاصة و أن احد أعضاء المجلس القومي التأسيسي و هو السيد نصر المرزوقي كان اقترح عند مناقشته الفصل الأول من مشروع الدستور بجلسة 14 فيفري 1956 أن يتضمن هذا الفصل "أن تونس دولة عربية إسلامية مستقلة"
لكن هذا الاقتراح لم يحظ بالقبول غير أن توطئة الدستور تضمنت عنصرين هامين كأنهما يستجيبان جزئيا لذلك المقترح و هما تعلق الشعب التونسي "بتعاليم الإسلام" و "بانتمائه للأسرة العربية" و كان السيد احمد المستيري اقترح في تدخله" التنصيص على المبادئ التي ترتكز عليها الدولة كاتجاهات دولة عربية أو دولة إسلامية في مقدمة الدستور أما الأمور القانونية يجب أن تكون في فصوله".
و تبقى مسالة التمييز بين مفهوم الدولة الإسلامية  و المبدأ المتمثل في ان الإسلام هو دين الدولة الذي تضمنه الفصل الأول منه قائمة و في هذا السياق يرى الشيخ محمد الشاذلي النيفر الذي كان عضوا في المجلس القومي التأسيسي و شارك في مناقشة مشروع دستور غرة جوان 1959  في محاضرة ألقاها يوم 31 ماي 1984 على منبر الجمعية التونسية للقانون الدستوري ان الفرق بين دين الدولة الإسلام و بين كونها دولة إسلامية ان هذه الأخيرة "يستلزم أن تكون القوانين كلها في المنهج الإسلامي. بحيث يعرض كل قانون على المبادئ الإسلامية فما هو مطابق لها اقر و ما لم يطابق ألغي"
غير أن هذا الرأي قابل للنقاش إذ انه لا وجود لأي تعريف دقيق لمصطلح الدولة الإسلامية    
فحتى ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي(منظمة التعاون الإسلامي الآن)  لم يعرّف الدولة الإسلامية، و غاية ما في الأمر ان المادة 8 منه نصت على أن لكل دولة إسلامية الحق في أن تصبح عضوا في هذه المنظمة التي تضم اليوم ما يزيد على خمسين دولة يوجد من بين أعضائها دول لائكية، أي تفصل الدين عن الدولة مثل تركيا و السينيغال و النيجر و بوركينافاسو .
كما ان دستور سوريا الصادر في 12 مارس 1973، و هي عضو في تلك المنظمة لم ينص على أن الإسلام هو دين الدولة إذ اقتصرت المادة االثالثة منه على ضرورة أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام. و أخيرا فان موريتانيا هي دولة إسلامية حسب ما جاء في المادة الأولى من دستورها لم ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لتشريعها مع العلم انه يطبق فيها القانون الوضعي و خاصة القانون المدني المستمد من الظهير المغربي  للالتزامات و العقود المستمد بدوره من مجلة الالتزامات و العقود التونسية.
و مهما يكن من أمر فان من نتائج اعتبار الإسلام هو دين الدولة التونسية ان يكون رئيسها مسلما و هذا أمر بديهي إذ لا يعقل أن يترأس غير مسلم دولة دينها الإسلام. و قد اقر هذا الشرط الأساسي الفصل 40 من دستور غرة جوان 1959 و من البديهي و الثابت أن يتم الإبقاء عليه في الدسنور الجديد و لا تفوتنا الملاحظة أن جل الدساتير العربية تقر نفس هذا الشرط باستثناء الدستور اللبناني لأسباب معروفة و كذلك الدستور المصري الصادر سنة 1971 الذي لم يشترط أن يكون المترشح لرئاسة الجمهورية مسلما رغم ان دين الدولة هو الإسلام  و يكفي حسب المادة 75 ان يكون مصريا من أبوين مصريين و متمتعا بحقوقه المدنية و السياسية ..
و تبقى مسالة هامة تتمثل في صبغة التشريع في البلاد بعد الوفاق الحاصل حول اعتماد نفس صيغة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 في الدستور الجديد. و مادام قد وقع الاتفاق على الاحتفاظ بنفس صيغة الفصل الأول من الدستور القديم فان النتيجة المنطقية هي الإبقاء أيضا على نفس صبغة التشريع الذي كان قائما في ظله و الملاحظ أن التشريع التونسي سواء قبل الاستقلال أو بعده لم يثر إشكاليات أو صعوبات فيما يتعلق بملاءمته مع الشريعة الإسلامية التي نادى بعضهم بتطبيقها و اعتبارها مصدرا أساسيا للتشريع و للتدليل على ذلك سنقف عند مجلة الالتزامات و العقود و هي أهم و اعرق مجلة في تشريعنا فقد صدرت كما هو معلوم في 15 ديسمبر 1906 و دخلت حيز التنفيذ في غرة جوان 1907 و من الثابت ان هذه المجلة استمدت العديد من فصولها من أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء ،
و هي حسب بعض الحقوقيين امتداد لحركة التقنين في تونس منذ أواسط القرن التاسع عشر كما ذهب الدكتور محمد بوزغيبة إلى القول بان توجهات مشرعي مجلة الالتزامات و العقود فقهية بالأساس و أن القوانين الوضعية أخذت من الشريعة الإسلامية و شاركه في هذا الرأي الأستاذ محمد عبد الجواد الذي اعتبر تلك المجلة تقنينا أمينا للفقه المالكي مستنكرا تعمّد مصر" بواليها أو خديوها المسلم و استقلالها و أزهرها و علمائها الدينيين و المدنيين الى نقل القوانين الفرنسية و إصدارها في مصر"على حد تعبيره.
و من ناحية أخرى تضّمن النص المتعلق بإحداث لجنة إعداد مشروع القانون المدني التونسي إمكانية الرجوع إلى القانون الفرنسي و الفقه الإسلامي فيما هو متلائم مع ظروف العصر حسب بعض الباحثين
كما تكونت لجنة من العلماء الزيتونيين سميت لجنة توجيه النظر الشرعي ترأسها شيخ الإسلام الحنفي محمد بيرم و الذي خلفه فيما بعد الشيخ محمود ابن الخوجة و الشيوخ احمد الشريف و عمر بن الشيخ   و سالم بو حاجب و محمد ابن خوجة و مصطفى رضوان  و كانت مهمة هذه اللجنة حسب الدكتور محمد بوزغيبة  "الاجتهاد في تأصيل الإحكام الموضوعة في المشروع التمهيدي لمجلة الالتزامات و العقود على ضوء الشرع الإسلامي " كما صادقت اللجنة فيما بعد على المشروع التمهيدي للمجلة. و لا تنسى الدور الهام الذي قام به المستشرق ذو الأصول الايطالية و هو الأستاذ دافيد صانتيلانا و هو مقرر اللجنة التي كلفت بإعداد مشاريع القوانين التونسية و كان مطلعا على الفقه الإسلامي و قد ذكر في تقريره أن اللجنة "اعتمدت بصفة عامة المذهب المالكي الذي هو مذهب أغلبية التونسيين إلا إنها لم تتردد في أن تعتنق المذهب الحنفي كلما كانت قواعده منسجمة أكثر مع قواعد المذهب المالكي و مع  التنظيم العام للمجلة و مع مبادئ القانون الأوروبي. و لا يوجد بالمشروع أي اثر لما هو مخالف لمذهب فقهاء الإسلام"
و فعلا وقع الاعتماد في وضع أحكام المجلة على أمهات مصادر و مراجع الفقه الإسلامي على المذهبين الحنفي مثل الأشباه و النظائر لابن نجيم ورد المحتار علي الدر المختار لابن عابدين و مجلة الأحكام العثمانية و مرشد الحيران لمحمد قدري باشا، و المذهب المالكي مثل التبصرة لابن فرحون و البهجة في شرح التحفة  للتسولي و غيرها .
إن المقام لا يسمح باستعراض جملة القواعد و المؤسسات الواردة في مجلة الالتزامات و العقود المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية و هي كثيرة .و نكتفي بالإشارة على سبيل المثال إلى بعض فصولها، منها  الفصل 369 الذي نص على انه "لا تقع المقاصة بين المسلمين مهما كان فيها ما يخالف ديانتهم " و كذلك الفصل 575 و جاء فيه " لا يصح بين المسلمين ما حجّر الشرع بيعه إلا ما رخصت التجارة فيه كالزبل لمصلحة الفلاحة " و كذلك الفصل   1463 و جاء فيه " ما لا يجوز بيعه أو إيجاره شرعا بين المسلمين لا يجوز فيه الصلح"
و لا شك أن مجلة هذه خصائصها و تجذّرها في الشريعة الإسلامية ليست في حاجة إلى تغييرها فهي هرم مضيء في تشريعنا و يجب المحافظة عليه، و يحق أن نباهي بها مثل مجلة الأحوال الشخصية التي تعدّ أيضا مكسبا وطنيا ثمينا و جل أحكامها مستمدة هي الأخرى من الشريعة الإسلامية رغم بعض المآخذ التي تنعاها فئة من الناس من ذوي الاتجاهات المتباينة على بعض أحكامها مثل قواعد الميراث و منع تعدد الزوجات و معلوم أن هذه المسالة طرحت على بساط النقاش و تناولها زعماء الإصلاح في العالم العربي بما في ذلك رجال الدين و منهم الشيخ محمد عبده الذي تناول هذا الموضوع في عدة مناسبات منها مقال نشر بمجلة الوقائع المصرية في 08/أوت/1881 بعنوان "حكم الشريعة في تعدد الزوجات " و مقال أخر بعنوان " فتوى في تعدد الزوجات " منشور في مؤلفه "التحكيم واجب الدولة و المجتمع" و هو يرى أن تعدد الزوجات هو مجرد إباحة لعادة موجودة سابقا على شرط العدل و هو متعذر إلا على النفر القليل استنادا إلى قوله جل ذكره في سورة النساء "و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم"  مضيفا أن في تعدد الزوجات احتقارا شديدا للمرأة و قد شاطره الرأي عدة مفكرين، منهم قاسم أمين و الطاهر الحداد .
و معلوم أن المشّرع المغربي، و لئن لم يمنع تعدد الزوجات بصفة مطلقة كما فعل المشرع التونسي فانه قيد التعدد بشروط محدّدة ،من ذلك أن الفصل 40 من  مدونة الأسرة المغربية الصادرة في شهر فيفري 2004 نصت على منع تعدد الزوجات "اذا خيف عدم العدل بين الزوجات كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها " ( و هذه الفقرة تذكرنا بالصداق القيرواني )
و لا يمكن أن يتم الترخيص في التعدد إلا بإذن من المحكمة و لا يتأتى ذلك إلا إذا وجد مبرر موضوعي استثنائي، و كذلك شريطة أن يثبت الزوج أن له موارد كافية تمكنه من تسديد حاجيات العائلتين، من نفقة و مسكن و المساواة في جميع  وجه الحياة طبق ما جاء في الفصل 41 من نفس المدونة ،و يقع وجوبا سماع الزوجة الأولى و تأذن المحكمة بالتعدد بقرار معلل غير قابل للطعن فيه .
و بالإضافة إلى هاتين المجلتين فان العديد من المجلات القانونية التونسية الأخرى لا تتعارض أيضا مع أحكام الشريعة الإسلامية فضلا على إنها تنظم ميادين و معاملات لم تكن موجودة في الماضي البعيد، مثل القانون الدولي الخاص و الإيجار المالي و مجلة المياه و مجلة الجنسية و الغابات و التجارة و التهيئة الترابية و التحكيم و التجارة الالكترونية و مجلة الصرف و التجارة الخارجية و التامين و حقوق التأليف و القانون الجوي و مختلف الأحكام المنظمة للمعاملات في التجارة الدولية و التي أفرزت ظهور أصناف جديدة من العقود من أصل أنقلو سكسوني، و هي عقود تنظمها نصوص خاصة جديدة، و لا تخضع حتى للقواعد القانونية العامة و الكلاسيكية و لا شك أن كل هذه المبادئ الجديدة تقتضي استنباط قواعد خاصة بها .
كما انه لا بد من ملائمة التشريع التونسي مع أحكام المواثيق و المعاهدات الدولية التي انخرطت فيها بلادنا و صادقت عليها، شأنها في ذلك شأن العديد من البلدان العربية و الإسلامية و خاصة المتعلقة منها بحقوق الإنسان و الحريات الأساسية . و المفروض أن يكون التقنين في كل بلاد متماشيا مع تطور المجتمع من الداخل و دون إهمال المحيط الإقليمي و العالمي الذي نعيش فيه خاصة في عصر العولمة، و المهم التوفيق بين التمسك بهويتنا العربية و الإسلامية و بين التطور السريع الذي يشهده العالم في كل الميادين، و هو توفيق ممكن إذا وقع التحلي بالاعتدال و الواقعية و الفهم الصحيح لمقاصد أصول التشريع الذي يجب ان يكون متطورا و حداثيا، و منسجما مع المنظومة التشريعية العالمية حتى يكون التقنين الوطني منصهرا فيها.       
* أستاذ متميز بكلية الحقوق و العلوم السياسية*