mercredi 17 octobre 2012

مفهوم توطئة الدستور و قيمتها السياسية و القانونية



شرع المجلس الوطني التأسيسي في إعداد صياغة الدستور الجديد و تكونت لهذا الغرض عدة لجان من بينها "لجنة التوطئة و المبادئ الأساسية و تعديل الدستور" وهي في اعتقادنا من أهم اللجان نظرا للمكانة المتميزة للتوطئة في الدستورو يتجه الوقوف على مفهومها ووظيفتها وقيمتها من الناحية السياسية و القانونية. لعله من المفيد الإشارة إلى أن الدساتير العربية على حد علمنا لم تستعمل مصطلح التوطئة التي هى ترجمة لعبارة  préambule  إذ أن واضعي تلك الدساتير فضلوا استعمال مصطلحات أخرى منها لفظة مقدمة (دستور دولة الإمارات العربية المتحدة)و الديباجة (دستور جمهورية مصر العربية و العراق و الجزائر و   موريطانيا) و تمهيد (دستور المملكة المغريبة )

و يمكن القول أن البلاد التونسية انفردت باستعمال مصطلح التوطئة في دستور غرة جوان 1959.و هذه العبارة مشتقة لغة من فعل وطأ و يعني هيأ و يقول ابن الأثير التوطئة هي التمهيد أما اصطلاحا فان معاجم القانون الدستوري تعرف التوطئة بكونها وثيقة تتضمن الإعلان عن مبادئ أو حقوق أو توجهات  عامة و الفلسفة السياسية التي يقوم عليها نظام الحكم. و يختلف محتوى التوطئات من دستور إلى أخر حسب أوضاع كل بلد و خاصة الظروف السياسية و الاجتماعية و غيرها التي يتم فيها وضع الدستور كما أن التوطئة عادة ما تكون قصيرة أو متوسطة و نادرا ما تكون طويلة من ذلك أن توطئة دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر في 17 سبتمبر 1787 قصيرة جد اذ لم تتجاوز ستة اسطر و كذلك الشأن تقريبا لتوطئة القانون الأساسي الألماني و هو دستور ألمانيا الصادر في 23 ماي 1949 و التي كادت أن تقتصر على التنصيص على مقاطعات ألمانيا الاتحادية آنذاك مع إشارة قصيرة التي إرادة الشعب الألماني في خدمة السلام في العالم و مسؤوليته أمام الله و البشر  كما أن توطئة الدستور الفرنسي الحالي الصادر كما هو معلوم في 4 أكتوبر 1958 قصيرة لم تتعد 10 اسطر خلافا لتوطئة  دستور فرنسا القديم الصادر في 27 أكتوبر 1946 التي تعد من التوطئات الطويلة النادرة إذ تضمنت العديد من حقوق الإنسان و من أهمها الحقوق الاجتماعية و حقوق المرأة و الطفل و التضامن و المساواة و تجدر الإشارة أيضا إلى أن بعض الدساتير لاتتضمن أية توطئة مثل الدستور الايطالي الصادر في 27 ديسمبر 1947 إذ اقتصر واضعوه على تخصيص 12 فصلا للمبادئ الأساسية و لا شك ان دستورنا الجديد سيشتمل على توطئة ما دام قد تم تكوين لجنة خاصة بها فما هو المطلوب في صياغتها و محتواها و ما هي قيمتها سياسيا و قانونيا .
لقد اختلفت الآراء حول هذا السؤال الهام إذ كان ظهر في السابق اتجاهان كبيران يرى  
أصحاب الأول و هو قديم  مثل الأستاذين      Carré De Malberg  وEsmein   
انه ليست للتوطئة قيمة قانونية على أن هذا الاتجاه قد تجاوزته الأحداث إذ أن الرأي السائد اليوم لدى شراح القانون الدستوري و فقه القضاء الدستوري أن للتوطئة قيمة قانونية كاملة و أن جميع أحكام الدستور بما في ذلك التوطئة لها نفس القيمة الدستورية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الدستور و هي متصلة به و هي مدمجة في ما سمي بمجموع النصوص التي تتم على ضوئها مراقبة دستورية القوانين و معنى ذلك أن القوانين التي تكون مخالفة للمبادئ الواردة في التوطئة تعتبر غير مطابقة للدستور و غير متلائمة معه و قد صدر في هذا الاتجاه قرار هام عن المجلس الدستوري  الفرنسي في 16 جويلية 1971 و المتعلق بحرية تكوين الجمعيات و في تونس توخي المجلس الدستوري نفس هذا الاتجاه في بعض أرائه في مشاريع القوانين التي عرضت عليه نذكر منها الرأي الذي أبداه في 15 جوان 1996 الخاص بمشروع القانون المتعلق بإصدار مجلة المعاليم و الإتاوات المحلية و الرأي الصادر في 12 نوفمبر   1998 المتعلق بتنقيح القانون عدد 34 المؤرخ في 17 افريل 1995 و قد اعتمد المجلس الدستوري في هاذين الرأيين توطئة الدستور للتثبت من مطابقة و ملائمة مشاريع القوانين المعروضة علية للدستور و معني ذلك أن للتوطئة نفس قيمة أحكام الدستور .
و من الناحية السياسية فان للتوطئة أهمية كبيرة باعتبارها كما أسلفنا تتضمن
 الفلسفة السياسية لنظام الحكم و المبادئ العامة التي يرتكز علها و هذا ما نلمسه في توطئة دستور غرة جوان 1959 التي أشارت  إلى جملة من القيم و المبادئ منها الديمقراطية و سيادة الشعب و قاعدة تفريق السلط و النظام الجمهوري.
و نظرا للقيمة القانونية و السياسية للدستور فانه لابد من إتقان صياغتها و ذلك بتوخي الوضوح والسلاسة في التركيب و انتقاء مصطلحات و عبارات واضحة و تفادى الكلمات التي قد يكتنفها بعض الغموض أو يدق فهمها فيؤول الأمر إلى التأويلات و تباين الآراء حول مدلولها و يستحسن استعمال المطلحات المتداولة في لغة القانون و خاصة في القانون الدستوري و العلوم السياسية كما يتعين أن لا تكون التوطئة طويلة إذ يحسن أن تكون موجزة و أن تقتصر على جملة من المبادئ الأساسية العامة دون الدخول في التفاصيل و يمكن الاستلهام من توطئة دساتير بعض الدول العريقة في الديمقراطية .أما محتوى التوطئة فالمفروض أن  تتضمن الإشارة إلى ثورة 14 جانفي 2011 و المبادئ التي اندلعت من اجلها كالحرية و الكرامة و التضامن و المساواة و التوازن بين الجهات و حقها في التنمية و كذلك الحق في الشغل كما يجب أن تتضمن جملة من المبادئ الأساسية ذات الصلة بتنظيم السلطة العامة و في مقدمتها الديمقراطية و الفصل بين السلط والصبغة المدنية للحكم و الحداثة و التعددية الفكرية و السياسية و انتماء تونس إلى محيطها العربي و الإسلامي و المتوسطي و المغاربي و تعلقها بميثاق الأمم المتحدة و المبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و بصفة عامة يجب أن تستجيب المبادئ التي سيقع التنصيص عليها في الدستور لتطلعات الشعب و كذلك الشأن بالنسبة لأحكام الدستور الذي يعد قانون القوانين على حد تعبير بعض فقهاء القانون الدستوري باعتباره يضبط طريقة تعيين الحاكمين و صلاحياتهم كما يضبط حقوق و حريات المواطنين فضلا على أن أحكامه تكتسي في نفس الوقت صبغة قانونية وسياسية و تعد عملية صياغة الدستور مسؤولية تاريخية جسيمة على عاتق المجلس الوطني التأسيسي الذي عليه أن يأخذ بعين الاعتبار لكل الاتجاهات الفكرية في البلاد و أن يستمع بالخصوص إلى مكونات المجتمع المدني بدون إقصاء و كذلك الأخذ بعين الاعتبار لبقية أصوات التونسيين الذين لم يشاركوا في انتخاب المجلس و هم كثيرون إذ المفروض أن يكون الدستور الجديد هو دستور كافة الشعب التونسي و ليس دستور كتلة معينة من الأحزاب أو تكريس لاديولوجية محددة كما انه تجسيما للوحدة الوطنية نرجو حصول توافق على أحكام الدستور الجديد و الابتعاد عن منطق الحسابات الظرفية الضيقة مهما كانت طبيعتها لان الدستور سيكون صالحا  لعشرات السنين وحتى لقرون وليس لفترة محدودة وهو ينظم الحياة السياسية بالبلاد لعدة أجيال .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire